عبد السلام برشيد، الشهيد أم الغريب في القصبة الجديدة؟
برشيد نيوز: الجيلالي طهير
لم
تكن القصبة الجديدة ذات يوم من أيام الماضي عنوانا للجرذان، وهاهي وقد
أصبحت كذلك منذ أن أطلق اسمها، بغباء لم يكن ينقصنا غيره، ذهب ولا تزال
توجعنا آثاره المخلدة، على ما أصبح يسمى بسوق الطوبة، قُرب مكتب البريد.
كانت القصبة الجديدة،عند أسيادها، مُصانةً كزهرة ليمون تعطر جنان القائد
المحظية. وعلى محيطها، كان أولاد علال، وفيهم رجالٌ ونساءٌ من الأخيار،
محترمون بداخلِ وخارج الديار، ينظرون إليها كزهرة برية، تحرسها عناية
الإله، تحت نجوم الحرية والسماء الندية.
أولا: الوسط العائلي لعبد السلام برشيد
بُنيت
القصبة الجديدة هناك، خارج برشيد، لأن المدينة كانت مخصصة عند تأسيسها
لإيواء المُعمرين. وفي سنة 1914، تم توشيح مؤسس القصبة الجديدة، القائد
محمد بن عبد السلام برشيد، بوسام جوقة الشرف من درجة فارس. وفي سنة 1940،
رُقي الفارس إلى درجة ضابط. فماذا يعني وسام جوقة الشرف؟ سؤالٌ طرحه
المراقب المدني لمركز ابن أحمد سنة 1940، على محمد ولد مولاي عبد السلام،
قائد أولاد مراح، وهو يضع على صدره وسام جوقة الشرف من درجة فارس، قبل أن
يُجيب عليه بالعربية الفصحى: "وسامُ جوقةِ الشرف يعني مكافأةٌ لك على ولائك
لفرنسا، وعلى إخلاصك للمخزن الشريف". بَعد نفي السلطان محمد بن يوسف، حدث
الطلاقُ بين فرنسا والمخزن، وانتهت لعبةُ الرقص على الحبلين. هناك، بقبيلة
مزاب، انحاز محمد بن مولاي عبد السلام، قائد أولاد مراح، لفرنسا، مُفرطا في
الإخلاص للمخزن؛ وهنا، بأولاد حريز، تمسك القائد محمد بن عبد السلام برشيد
بالإخلاص للمخزن، وكسر الولاء لفرنسا. "لقد كان ولد شميشة مخزن أبا عن جد،
ولم يكن يسرق الدجاج، مثل لصوص الدواوير الذين جعلتهم فرنسا قياداً. كان
يتستر عنا، ويغض الطرف عنا"، يحكي لنا ذاكرة الحركة الوطنية، عبد القادر
زروال حفظه الله.
إن
إطلاق الاسم يعبر عن علاقة ما بين المُسمِي والمُسمَى. ولفترة طويلة، ظل
اسم "عبد السلام"، أَحدُ القياد الأشاوس في زمانه، يحظى بمكانة مميزة عند
الفقرا أولاد علال، يطلقه الآباء على أبنائهم، لِما يحمِله من رمزية على
مستوى القوة والإبهار، مثل: عبد السلام طريبيز، لخليفة السي عبد السلام،
عبد السلام بنقاسم، عبد السلام ولد بابا، عبد السلام بلحبيب، عبد السلام
ولد السي صالح، عبد السلام ولد الباشا، عبد السلام ولد الحاج علال، عبد
السلام ولد هروال، عبد السلام ولد العوماري، الخ. أُحد أحفاد القائد عبد
السلام برشيد، وهو محمد بن بوشعيب بن عبد السلام برشيد، الملقب ب "ولد
عائشة التادلوية" (الصورة)، وكان رجلا معروفا بحرارة النفس، ُرزِق بثلاثة
أبناء، منح أحدهم اسم محمد، على عمه القائد محمد ولد شميشة؛ والثاني
الدكتور بوشعيب، على اسم والده (الصورة)؛ والثالث، عبد السلام، وكان أصغرهم
سناً، على اسم جده القائد عبد السلام برشيد.
ثانيا: عبد السلام برشيد والجندرمي فابير .
في
ليلة الأحد من التاسع عشر سبتمبر 1943، خرج الشاب عبد السلام ولد محمد
ولد التادلوية، البالغ من العمر 21 سنة، مع ثلاثة من رفاقه نحو أحد
الضيعات الفرنسية بنواحي برشيد، المسماة ضيعة "كيدون". وفي غياب سكان
الضيعة، تسلقوا الجدران، واستولوا على بندقية صيد، وأشياء أخرى. هؤلاء
الأصحاب هم: محمد بن محمد الملقب ب "ديودو"، ومحمد بن علي الملقب ب
"التدلاوي"، وبوشعيب بن امحمد بن عمرو. بعد مرور يومين، تم إلقاء القبض على
ديودو، الذي أوشى به أخوه، فاعترف على رفاقه. تم توقيف عبد السلام
بالقصبة الجديدة، من طرف الجندرمي فابير ديودوني (العاطي الله)، الذي أجلسه
في المقعد الخلفي للسيارة، مع أحد المخازنية لحراسته. جلس عبد السلام
هادئا، بأعصاب جليدية، دون أن يبدي أية مقاومة، والسيارة تحمله إلى مركز
الجندرمية ببرشيد. وعند الوصول إلى ممر السكة الحديدية، المعروف بسابول،
أًخرج عبد السلام مسدسا أوتوماتيكيا، من نوع كولت، وصوبه على رأس الجندرمي
الجالس أمامه، أرداه قتيلا في الحال. لما توقفت السيارة عن السير، جراء
اصطدامها بجدار ممر السكة الحديدية، رفع عبد السلام سلاحه في وجه المخزني،
دون أن يضغط على الزناد، ثم لاذ بالفرار، واختبأ في قاع بئر يعرفها جيدا
بدوار الحاج عمرو. ومن قاع البئر، والسر في البئر، أخذ
عبد
السلام يتوعد كل من يحاول النزول إليه بالقتل، وقال للفرنسيين الذين
هرعوا إلى عين المكان، مدججين بالسلاح: " لن أطلع حتى يأتي عندي قايدي".
حينئذ، أحضروا له عم أبيه القائد محمد بن عبد السلام برشيد، فقال لهم: "
لا، إن قايدي هو أبي".
لبِث
عبد السلام في الحبس الاحتياطي نحو سبعةِ أشهر. وفي شهر أبريل 1944،
انطلقت محاكمتهُ، فلم يُنكر الوقائع المنسوبة إليه، عدا قوله أنه لم يحاول
إطلاق النار على المخزني، وإنما قام بتخويفه فقط. فالمحكمة اتهمته بنية
القتل، لولا أن المسدس أصيب بالعطب، ولم تنطلق منه الرصاصة. ومن جهة أخرى،
لم يفسر عبد السلام كيف أقدم على قتل الجندرمي الفرنسي، واكتفى بالقول أن
ذلك حدث صدفة، أثناء لحظة جنون، وبأن رفيقه ديودو هو من سلمه المسدس،
وأوصاه بأن يطلق النار عليه عندما يأتي لاعتقاله. اهتم المحامي توليدانو
الذي آزر عبد السلام برشيد، بسلوك موكله أكثر من اهتمامه بارتكاب الجريمة،
فشرح في مرافعته بأن عبد السلام ينتمي لعائلة مرموقة، وهو الوريث الوحيد
لممتلكات كبيرة. مضيفاً بأنه لم يتصرف بإرادته، وإنما تحت تأثير رفاق
السوء، موجهاً أَصابع الاتهام إلى ديودو، لأنه بدون شغل، قائلا بأنه هو
المتهم الحقيقي الذي أوعز إلى عبد السلام بالذهاب إلى الضيعة الفرنسية،
وأعطاه السلاح، وطلب منه أن يقتل الجندرمي عندما يأتي لاعتقاله. إن "عبد
السلام تصرف بالاقتراح، إنه بالتأكيد غير مسؤول"، قال المحامي توليدانو.
«
Abdesslem a agi par suggestion. Il n'est certainement pas responsable
», affirme M' Tolédano, qui conclut en demandant au Tribunal de bien
vouloir faire examiner l'accusé par un médecin pour savoir, non pas s'il
est fou, mais jusqu'à quel degré sa responsabilité peut être retenue.
واختتم المحامي مرافعته بتوجيه الطلب لهيئة المحكمة بأن تعرض موكله على
طبيب مختص، لا لإثبات بأنه أحمق، وإنما لتحديد درجة مسؤوليته في عملية
القتل. وأما ممثل الحق العام، فقد أطنب في تعداد مناقب الجندرمي الميت،
مطالباً بإعدام عبد السلام، ومستثنياً ظروف التخفيف، للأسباب الخمس
التالية: 1. اغتيال الجندرمي فابير؛ 2. محاولة اغتيال المخزني؛ 3. جريمة
قتل مصحوبة بجريمة أخرى؛ 4. قتل رجل القوة العمومية؛ 5. القتل ثم الفرار.
وبعد
المداولة، حُكم على عبد السلام برشيد بالإعدام، وعلى التدلاوي وديودو
بالسجن عشر سنوات والمنع من الإقامة لمدة 20 سنة، وعلى بوشعيب بن امحمد بن
عمرو بالسجن 5 سنوات فقط. كان عبد السلام برشيد شابا وسيما، حسن المظهر.
بعد النطق بالحكم، طلب منه الجندرمي الوقوف، فانتصب مستقيماً، ولم يتفوه
بكلمة. ضبط معطفه بكامل الهدوء، ثم مد يديه من غير ارتعاش، للجندرمي الذي
وضع فيها الأصفاد.
ثالثا: عبد السلام برشيد والغريب لألبير كامو
قبل
سنتين من محاكمة عبد السلام برشيد، كان ألبير كامو قد أصدر رواية الغريب.
فتزامنت المحاكمة مع فترة انتشار الأفكار العبثية، المتأثرة بعلم النفس
التحليلي عند سيغمود فرويد. ركز محامي الدفاع على تحليل الشخصية
الفيزولوجية والنفسية لعبد السلام برشيد، وطالب في مرافعته بعرضه على طبيب
نفسي. إن كل أوصاف ميرسو، بطل رواية الغريب، متواجدة في شخصية عبد السلام.
على الرغم من اعترافه بإطلاق النار، لم يكن في كامل قواه العقلية، بل
تصرف كآلة تتحكم فيها مجموعة من القوى الداخلية والخارجية، أفقدته أفكاره
حتى أضحى غريبا على نفسه، وعلى المحيط العائلي الذي ينتمي إليه. تماما مثل
الغريب ميرسو الذي أخذت منه الشمس سيطرته على نفسه، وأفقدته توازنه
الفكري، فأخرج المسدس واستجاب الزناد للضغط، يعترف عبد السلام بأن شيئا في
عقله وجسمه، دفعه لإخراج المسدس ووضعْ اليد على الزناد، خلال لحظة جنون.
إن بطل رواية ألبير كامو الذي قتل العربي، كان رجلا دمث الأخلاق، ولا
علاقة له بالجريمة إلا من خلال صديقه رايمون الذي اصطحبه للشاطئ، وأعطاه
المسدس الذي احتفظ به في حقيبته. وكذلك الأمر بالنسبة لعبد السلام برشيد
الذي اصطحبه صديقه دويدو العاطل عن العمل إلى الضيعة، وسلمه مسدس القتل.
عند هذا وذاك أعصاب جليدية، وعدم اللامبالاة، وتواجدٌ في المكان الخطأ،
والتوقيت الخطأ. لقد تم إعدام الغريب بطل رواية كامو، وإعدام عبد السلام
برشيد بطل القصبة الجديدة، لنفس السبب، وهو قتل السلطة الرمزية للمجتمع.
رابعا: عبد السلام، مقاومة أم قتل عبثي؟
نعني
بالعبث في هذا السياق، التنافي مع المنطق وعدم الخضوع إليه. فلا شيء منطقي
يبرر ذهاب عبد السلام إلى الضيعة الفرنسية، وهو يملك ما لا يملكه صاحب
الضيعة من أملاك وجاه. ولا شيء منطقي يبرر لجوءه إلى القتل، وهو الذي
يترنح في بحبوحة العيش، وأمامه مستقبل يؤمن له حياة هادئة وسعيدة. في
رواية "ميرسو، تحقيق مضاد"، للروائي والصحفي المشاكس كمال داوود التي
اعتمد تقنية التضاد، أو ما يسمى بلعبة المرآة، وسلطها على رواية الغريب
لألبير كامو، يطرح عدة أسئلة عن القتل، منها: هل يختلف قتل الشخص نفسه من
أجل التحرير عن قتله من أجل سبب آخر؟ هل يختلف فعل القتل بحسب وقت حدوثه؟
ومن صفحات الرواية، يخرج الضحية العربي من قبره، وينتقم من قاتله الفرنسي
ميرسو بعد يوم من حصول استقلال الجزائر. إنه قام بعملية قتل عبثية، لا
تستحق الذكر. لو أنه ارتكب جريمته قبل يوم واحد من حصول الاستقلال، لكان في
أعين الناس قام بعمل بطولي، وليس بجريمة عادية. من سخرية العبث، أن يُمنح
سجينٌ ما اكتملت مدة حبسه مع إعلان الاستقلال صفة مقاوم، ولا يُمنح رفيقه
الذي حُكم عليه بالإعدام، قبل اندلاع شرارة المقاومة المسلحة، صفة شهيد.
مُنتهى العبث هو أن يوصف محمد ولد مولاي عبد السلام، قائد أولاد مراح بخائن
السلطان، بسبب وفائه لفرنسا، ولا يتم الاعتراف بوطنية محمد بن عبد
السلام برشيد، قائد أولاد حريز، بسبب وفائه للسلطان (الصورة). إن ممارسة
السلطة تضمن السيطرة على الكلام، وما يعتبره البعض مقاومة تعتبره الجهة
المضادة إرهابا، واللي بغا ياكل شي ربيعا يسميها. فهل ينبغي لنا رفض الخطاب
الاستعماري والخطاب الوطني بالتساوي في آن واحد؟
كان
الأب محمد ولد التادلوية يحب ابنه عبد السلام حباٌ جنونياٌ. اقترح التنازل
عن أملاكه لفائدة زوجة الجندرمي، في مقابل تنازلها عن القضية، وأن تتزوج
ابنه الذي يفوق زوجها جمالا، والبالغ من العمر 21 سنة فقط. لكن المسألة في
أبعادها السياسية كانت أكبر من الأطراف المدنية، لقد تجاوز عبد السلام الخط
الأحمر، وقتل السلطة الفرنسية. ولقد ظل الوالد يبكي إعدام ابنه حتى أعطاه
السي صالح بلفاطمي برشيد (الصورة) ابنه عبد السلام، على أمل أن ينسيه
فجيعته. " إن الأطفال الصالحين سيدتي هم من يصنعون الثوار المفزعين. إنهم
لا يقولون شيئا، ولا يختبئون تحت الطاولة، ولا يأكلون سوى حلوى واحدة فقط.
لكنهم مع مرور الزمن، يجعلون المجتمع يؤدي الثمن باهظا. فحذار من الأطفال
الصالحين"، يقول جون بول سارتر، على لسان أحد أبطال مسرحية " الأيدي
القدرة".
*****
الصور
مأخوذة من من ألبوم السي الحطاب برشيد، وفيها: الباشا الحاج محمد برشيد،
السي صالح برشيد، السي الفاطمي برشيد، محمد بن بوشعيب برشيد، الدكتور
بوشعيب برشيد، عبد السلام ولد السي صالح.
Arrêt du Tribunal Criminel de Casablanca, « L'assassin du gendarme Fabert ».
Albert Camus, « L’étranger ».
Kemal Daoud, « Meursault contre-enquête ».