القيسارية، كما عشتها مع أبي. (الجزء الاول)
بقلم: الجيلالي طهير
إذا أنت أردت أن تعرف تاريخ مدينة برشيد فعليك أن تدخله من أبواب القيسارية. في البدء، لم يكن لأولاد حريز أسواق تابثة، ولم تكن لهم دكاكين مخصصة للبيع والشراء. كان الناس يجتمعون بالأسواق، في الهواء الطلق، يختار كل واحد مكانا يفترشه، ويعرضون سلعهم على الأرض. ثم جاءت القيسارية لتشكل نقطة تحول في حياتهم، وتمكنهم من العبور من التجوال الترحال إلى الثبات والاستقرار .
مرت القيسارية بأربع مراحل في عمرها قبل أن ينتهي تاريخها، وتتحول إلى كابوس يرهق ضمائر المتواطئين على هدمها. أول المراحل، مرحلة الطفولة التي بدأت مع تأسيسها في أواخر العشرينات وانتهت مع نهاية الثلاثينات في القرن الماضي. طوال تلك الفترة، بقيت البناية عالقة في الفراغ، على مقربة من سوق أسبوعي كان يعقد بأرض دوار المخازنية. بعد ذلك، دخلت مرحلة الصبا بالتزامن مع بدايات التشكيل المعماري للحي الذي يحمل اسمها، وتحويل السوق الأسبوعي جنوب طريق عين سيرني، وتهيئة الطرقات والتشجير، والقضاء على البرك المائية التي كان يعج بها المكان. في المرحلة الأولى، لم يكن عدد سكان مدينة برشيد يتجاوز 712 نسمة سنة 1926 منهم 89 مسلم 171 يهودي، و1926 نسمة سنة 1936، منهم 1471 مسلم و 171 يهودي. وفي المرحلة الموالية بلغ العدد 5509 نسمة بحسب تعداد سنة 1952، منهم 4470 مسلم و384 يهودي.
كانت المعروضات للبيع بالدكاكين المخصصة للمواد الغذاءية تقتصر على ستة أنواع من السلع، هي: الشمع، والسكر، والشاي، والقنب، والملحة الحية، والكارطة.
ولأن النشاط التجاري كان يدور حول يوم الاثنين، فإن أصحاب الدكاكين كانوا يحصلون على البضائع سلفة من عند التجار اليهود ويؤدون ثمنها بعد بيعها، ثم يأخذون بضاعة أخرى على نفس المنوال. كان لليهود الذين زرعوا بدور التجارة بالقيسارية دكانين إثنين لبيع اللحوم، واحد في ملك الجماعة اليهودية والآخر للجزار يوسف اليهودي، وكان للمسلمين ثلاثة دكاكين، لأصحابها صبري حليوة ، وبا العربي اسمعلي، وحمو اسمعلي (جد عبد الكريم وياسيف والزوهرة).
هؤلاء الأشخاص الثلاثة هم الجزارون المستقرون الأوائل في تاريخ مدينة برشيد. أما بالنسبة للأوروبيين، فقد كانت لهم متاجرهم الخاصة بالحي الأوروبي، منها محل مدام بولي لبيع اللحوم، وكان يشتغل معها صبيان هما المعطي ولد بوعزة طهير وعمرو ولد عبد القادر طهير. بعد مدة، سيفتح أحمد ولد الواهلية دكانه، وسيتبعه محمد الشخش محي الدين، وبوشعيب ولد عليجة، وبوشعيب النعيرة، ومحمد ولد كروم، وآخرون.
ذات صباح، مر الخليفة السي عبد السلام برشيد أمام حانوت ولد كروم، الذي كانت له ضفيرة من الشعر مفتولة، مدلاة على رأسه، موضة عصره. أعجبته سقيطة خروف معلقة على الغانجو، فأمر المخزني أن يأخذها ويحملها له إلى بيته. تألم السي بلخير العثماني، شواي دار الباشا، وهو يرى ولد كروم ينش الذباب، فاقترح عليه الذهاب والوقوف أمام بيت الخليفة لعله يحن عليه، ففعل.
وما كاد الخليفة يراه حتى أمر المخزني بالقبض عليه، معتقدا بأنه ينتمي إلى الفقرا الذين يتحدون سلطته. لكن الكاتب السي البشير قال له: " هذا راه ولد كروم من لمباركيين أولاد امحمد، ويأتي من طريق الفقرة". لم تكن لدكاكين القيسارية أبواب تغلق، وكان أحمد ولد الواهلية يحتفظ بالميزان وأدوات العمل في دكان والدي الموجود قبالة دكانه.
في تعداد سنة 1961، بلغ عدد سكان برشيد 13780 نسمة، منهم 13.212 مسلم و220 يهودي قبل أن يقفز إلى 20.113 نسمة سنة 1971، ولا شيء بالنسبة للعنصر اليهودي.
وهي الحقبة التي تتطابق وبلوغ القيسارية مرحلة الفتوة والمراهقة. تواري الجزارون أصحاب الجلابيب التقليدية وحل محلهم جيل جديد يلبس البدلات العصرية. إنهم صبية الأمس أصبحوا رجال المرحلة: احسين زرقان أخذ حانوت لمعلم محمد الدكالي، أحمد فوينة أخذ محل لمعلم حمو اسمعلي، محمد بلمامون البيضي أحذ محل الأمين عبد القادر بلغزواني. بينما امتلك محمد ولد صالح العثماني دكان يوسف اليهودي والمعطي طهير دكان الجماعة اليهودية، الخ. وبعد أن كانت أبواب الدكاكين تغلق بألواح خشبية، يتم تصفيفها بطريقة معينة، وربطها بقضيب حديدي يتبت على الجدار، أصبحت لها أبواب وشبابيك من صنع حديدي.
وغير بعيد من الجزارين، بدت العزلة واضحة لدى باعة المواد الغذائية من الجيل القديم، وهم: السي عبد الرحمان باحمان، والحاج أحمد لطفي السرغيني، والفقيه السي بيهي، والفقيه السي براهيم العلمي، والحاج براهيم باموس، والإخوة فتيتة.
ما كانت القيسارية أيقونة مقدسة ولا هي من مخلفات الاستعمار كما يروج له بعض الصغار من رضع ميزانية برشيد. هي أيضا ليست مجرد دكاكين بسومة كرائية في سجلات الجابي السابق محمد الرداد. إنها تاريخ مدينة كان يجب احترام تأثيره على روح الساكنة وثقافتها وطبائعها. كانت بمثابة نقطة مرور وعبور، ومركز لقاء وتلاقي بين الكبير والصغير، الغني والفقير. لم يكن دورها يقتصر على عمليات البيع والشراء، بل كانت أيضا مكانا يجتمع فيه الناس القادمون من كل مكان، يرتشفون الشاي ويتبادلون أخبارهم وحكاياتهم.
ما أكثر المقاهي الشعبية التي كانت تحمل صواني الشاي إلى الدكاكين. في بناية القيسارية كانت توجد مقاهى تحمل أسماء: حمو ولد رحمة، يامنة زوجة محماد، السعيدي، البرهومي، العسكري. وخارج البناية، كانت توجد مقاهي: الصحراوي، أولاد بلفقيه، إينا، عيسى ولد با عبد الله، الخ.
يتبع.....