القيسارية، كما عشتها مع أبي.( الجزء الثاني)
بقلم: الجيلالي طهير
لم تكن محلات القيسارية تتوفر على الماء الشروب، لكن النافورة، المتبتة وسط الساحة، كانت تلبي الحاجيات، قبل إغلاقها من طرف البلدية في بداية التسعينات. "وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ودروا البيع"، غير أن هذا لم يكن هو واقع الحال بالقيسارية. لقد ظل المسجد مغلقاً لسنوات طويلة، بسبب شقوق بارزة في الجدران، وكان السي عبد السلام بلحبيب، صديق السي الحطاب المؤذن، يوقف عربته أمام دكان هذا الاخير ويناديه جهرا: "والحطيطيب، واش ذاك الجامع ما بغا يريب". في ظل تلك الأجواء، كان الكيف البلدي يباع خلسة للزبناء باحدى الدكاكين المجاورة، وبالعلن في الطريق العام على يد الدرانة ولد بناصر، والمخيطير، والكوشي، والعيرج، ولعبويد نسيب مول البيجو.
هكذا كان المشهد المهيمن في عالم القيسارية أيام شبابها ومراهقتها. على الواجهة الجنوبية قبالة مقهى لحسن الضو، ساحة كبيرة بها مرحاضٌ عمومي وحفرةٌ لرمي الخضر والفواكه الفاسدة. هنا كانت تُعرض الملابس والأدوات المستعملة للبيع، وتقام الحلقة، ويقيم الطنجاوي البوكسور حلبته، ويسرد الصحصاح أزلياته، وتنتصب براكة السويرتي مولانا. على الواجهة الغربية، المطلة على مكتب البريد، كان يرابط بلعقدة (محمد بلفكاك)، أحد العائدين من جحيم الحرب العالمية الثانية، يحلم بالحوالة التي لم يستطع اليها سبيلا.
تنطبق عليه قصيدة محمود درويش،"مر القطار وأنا أنتظر". على الواجهة الجنوبية، بين زنقتي دمشق وتونس، ساحة صغيرة يستعرض فيها الشلاكش بونواقس مهاراته في الضامة مع "الشداد"، تحت أنظار الهواة المتفرجين. وأمام الواجهة الشرقية، بزنقة الجنرال الكتاني، كان يقف الهادي بنعيسى، من قدماء الشبيبة الاستقلالية، في عهد المشرف عليها محمد باموس، كتمثال صامتٍ، منتظراً عطف الأعيان الذين لا يبخلون عليه. هؤلاء، وفي غالبيتهم من جمعة رياح وساحل اولاد حريز، كانوا تركوا حزب الاستقلال وانضموا للمخزن الذي يهددهم بمصادرة أملاكهم في ظل حالة الاستثناء.
أصبح الحزب العتيد وقتها في حالة احتضار، وتحول مقره إلى قبة تفتح أبوابها للزيارة في المواسم الانتخابية. والحالة هذه، فيمكن تشبيه المحترم فؤاد قديري بمقدم ضريح، فصيح، يتقن تلاوة الفاتحة على "المايدة"، وتشبيه صراعه مع المحترم محمد بن الشيب، قبيل الإنتخابات السابقة، بالصراع الكلامي التاريخي بين لمقدم العائدي ولمقدم لعناية على"الشجرة"، تحت أقواس القيسارية. على يسار الباب الحديدي لمدخل القيسارية، كانت تجلس متسولات ذلك الزمان، وهن: الفقرية، والعونية، واسمهان، وخناثة. خلفهن كان "با لحبيب"،الرجل الأحدب،بقامتة القصيرة، يفترش الأرض عارضاً سلعته البسيطة التي تتألف من الشقوفة، والمطاوا، والسباسا، ولوازم التقسيسية (القرطة والموس بونقشات والموس الكرموسي). على اليمين، تصطف طاولات باعة الخبز، وأشهرهم با عبد السلام بوفروج. إنه المدخل الرئيسي للقيسارية الذي يكثر فيه الرواج، ويتجول حوله المتسولون، مثل اللباق، وبويكرة، والهبطي، وسيد الحاج، وعبد القادر الظالمين، وجمي مول الفردي، والتبيصر ويصر، وآخرون أقل شهرة. لم يكن المكان ليخلو أيضا من المجانين الذي يلهثون خلف أعقاب السجاير. إنهم فئة المسالمين الذين يسمح له بالخروج والتجول بحرية في شوارع برشيد، مثل قونوفو، ولمعيطيطي، وعنتر، والوجدي، وبنداود، الخ. وعلى غير العادة، سُجلت حالة مؤسفة في يوم من الأيام، تمثلت في اقتحام أحد الحالات الخطرة لدكان بابا عبد السلام الحبشي الجزار الذي طعنه مجنون بسكين، وكاد ان يقتله.
على بُعد أمتار من هذا الباب الرئيسي، يقع دكان خالي براهيم باموس، وأمامه يجلس كبار القوم، من أصحاب المخزن القديم، يرفلون في ثيابهم الأنيقة. إنهم السي الفاطمي برشيد، والسي صالح برشيد، وولد التادلوية، وخالي صالح الحايل، والشيخ الوزاني التعلاوتي. هؤلاء، دون سواهم، كانوا يرتشفون الشاي المعطر بالعنبر، خاصية الطبقة الراقية. أعيانٌ آخرون لا يقلون شهرة عنهم كانوا يمرون من هنا دون الجلوس في مكان معين، يشترون كميات كبيرة من اللحوم، ويغادرون، مثل: سي خليفة ولد الحاج عيسى، العربي ولد مسيك، العربي ولد السالمية، الحاج قيدي بنسماعيل، عمرو بلحبيب، اولاد با الزين، بوشعيب ولد الريم، الخ. ذات يوم جلس رجل فقير من دوار الصواكة أولاد علال، قبالة حانوت خالي براهيم باموس، واستسلم للنوم. أيقظه الشيخ الوزاني وقال له: "والله ما صبت عا نكون بحالك".
انتفخ الرجل مزهواً وهو يظن نفسه أحسن حالاً من شيخ ثري، لكن الوزاني لم يتركه يكمل فرحته، والتفت إليه بسرعة، وقال: "وزلطك خليه عندك". كان الناس يتناقلون حوارات الوزاني لما يجدون فيها من حِكم مُغَرزة على قد المقاص. ففي يوم من الأيام، صادف الخواجة الحاج بوعزة المعروفي (كاتب مخزني) خارجا من دكان الحلاق، وقال له: "حَسنتْي لْحَيتكْ عَدْتي بْحالْ مْرَيتكْ".
وفي مناسبة أخرى، قال للمناضل المكي لكبابطي، وكان من المنشقين عن حزب الاستقلال والمنضمين لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: "مْشيتي عل لْيمين مع حزب الاستقلال، وحايدتي جوج، شاطْ لك هذا"، ثم ضغط على الخنصر والبنصر وقلز له بالوسط. . "وضرتي عل الأيسر، ومشيتي للاتحاد، وْحايْدتي جوج، شاط لك هذا"، وضغط على الابهام والسبابة، وقلز له بالوسط .
ارتبط مجد الوزاني بفترة الحماية، وعندما أراد شراء مذياع من عند الحاج براهيم نايت عيس، خيره الحسين نايت عيس بين جهاز عادي وجهاز يلتقط الأمواج الدولية، فقال له: " أنا أريد الاستماع فقط إلى محمد عبد الوهاب، وليس للأخبار. إني مثل الجمل الذي أوقعوه أرضا، وأحكموا وثاقه بالحبال من فوق ومن تحت، وقالوا له: " وا الجمل واش بغيتي لوطا ولا الجبل".
في تلك الفترة، كانت القيسارية بمثابة حقل أساسي لإنتشار الأخبار، وصناعة الرأي العام. وكانت برشيد مقسمة كاليونان القديم إلى النحن والآخرون. نحن الاتحاديون الشباب الطاهرون، والآخرون الكهول الأحرار الفاسدون، أو هكذا كان يعتقد شباب عصرهم.
اخترقت الآلة الانتخابية الاتحادية الشارع الرئيسى للقيسارية، وتوقفت عند ملتقي زنقتي الجنرال الكتاني وصلاح الدين الأيوبي. كان رأس المسيرة يقف عند دكان طريبيز، ومؤخرتها عند حانوت ولد سيدي عم العطار، عندما افترش الشباب الأرض، وجلسوا صامتين لبضع دقائق. اقشعرت الأبدان للمشهد الحضاري الرائع، وتفاعلت القيسارية الصاخبة بمبادلتها للصمت بالصمت الرهيب. وتمر السنوات، وتبلغ القيسارية مرحلة النضج خلال عقد التسعينات، ويصبح شباب السبعينات كهولاً، ويصل الحزب المعارض الى سدة الرئاسة بالمجلس البلدي. هنا يتوقف التاريخ في دورانه، كان يا ما كان،
وانتهى الأمر، وتسقط القيسارية كجمل الوزاني ولا تنهض. لنترك جانباً بهلوانيات أولئك الصغار الذين يميلون حيث الرياح تميل، ونتساءل: هل كان بعض أعضاء المجلس البلدي، ممن يرتبط وعيهم بالحب الصادق لمدينتهم، عميانا عندما استسلموا لتخدير اللغة العمياء؟ اللغة العمياء، بتعبير غسان كنفاني، يستخدمها كل إنسان ليستر عجزه، أو يخفي قصده، لأغراض متناقضة دون تحديد معنى الكلمات. هي الفكرة نفسها في رواية "1984" لجورج اورويل، ويسميها صاحبها ب"التفكير المزدوج". ويعني القوة القادرة على الجمع بين اثنين من المتناقضات في عقل واحد، وفي الوقت نفسه، فيصبح الجهل هو القوة، والكذب هو الصدق، واليسار هو اليمين. أرى القيسارية كفتاة رائعة كنا احببناها في مراهقتنا، وغامرنا بعيدا. ولعلها احبتنا أيضا، كما احببناها، ونحن لا ندري. أعتقد ضاعت مع الغياب، ومع غيبوبة الوعي، وسلطة اللغة العمياء والتفكير المزدوج.
رحم الله أبي