بقلم الجيلالي طهير : من تاريخ الأوبئة ببرشيد، تيفوس 1938
من تاريخ الأوبئة ببرشيد، تيفوس 1938
برشيد نيوز : بقلم الجيلالي طهير
الذاكرةُ ليست هي التاريخ، ولا التاريخُ هو الماضي الذي يمكن أن يكون بدون تاريخ. عندما يوصدُ البابُ أمام كتابةِ التاريخ عن طريقٍ الإهمال، وتموت الذاكرةُ مع أصحابها بدون توثيق، لا يبقى لنا غير الماضي بدون تاريخ، وكأننا نقرأ في كتاب فارغ لا يحمل غير العنوان. نحن في اهتمامنا بالتاريخ لا نعيش على الماضي، ولا نسيرُ إلى الوراء، في جدلية معكوسة تقودنا من الثقافة إلى الطبيعة. فالتاريخ، يعني بالنسبة إلينا دروسٌ وعبر، هو طريقٌ مستقيمٌ، ومنارةٌ تضيء طريقَ المستقبل، ما دام الكائن البشري فكر، والفكرُ تاريخ.
في سنة 1938، عاشت منطقة برشيد، كسائر المناطق المغربية ظروفاً مناخيةً قاسية، بسبب مُخلفات الجفاف الذي استمر لمدة ثلاث سنوات متتالية: 1935، 1936، 1937. لكن المناطق المغربية الأكثر تضرراً كانت هي منطقة المغرب الشرقي والمناطق الجنوبية، حيث الناس يهاجرون، ويهيمون على وجوههم، فراراً من القحط باتجاه السهول الرطبة. لم تُمطر السماء خلال شهري يناير وفبراير 1938، ولم يبق أمام الناس من أمل غير التمسح بقبب الأولياء، وتنظيم طقوس تاغنجا، لاستجداء المطر من السماء. كان عدد سكان مركز برشيد يبلغ 1256 مسلم، من أصلِ 1992 نسمة يمثلون العدد الإجمالي للسكان. ولأن برشيد لم تكن تتوفر على مسجدٍ أو مصلى، وصلاة الاستسقاء لم تكن واردة في الحسبان، فقد توجه السكانُ يوم الأحد 06 مارس 1938 إلى مقبرة سيدي زاكور، وذبحوا عددا من الخرفان على قبب أبناء سيدي عمرو بن لحسن، حامي الزرع والضرع والرضع، ثم وزعوا لحومها على الفقراء، وهم يتضرعون إلى الله أن يزيل الغُمة وينزل عليهم الِنعمة من السماء.
لقد انطلقتِ الأزمةُ الاقتصادية العالمية في العالم المتطور سنة 1929، ولكن آثارها السلبية لم تصل المغرب الكولونيالي إلا خلال سنة 1934، عندما شعر المُعمرون بأنهم لم يعودوا قادرين على سدادِ القروضِ البنكية. وأما المغاربة، فكان جفاف سنة 1935 هو بدايةُ الأزمة بالنسبة إليهم. لأن الحامدين الشاكرين يعيشون على الاكتفاء الذاتي، والكوانينُ الكبيرة يبالغون في الإنفاق على المآدب والمجالس، ويكنزون الذهب تحت الأرض، عوض الاستثمار في عصرنة الفلاحة. عانوا جميعهم من جفاف 1935، وتفاقمت أوضاعهم سنة بعد أخرى، حتى جاءت المجاعة بوباء التيفوس في ربيع سنة 1938 الذي يرتبط بالفقر وقلة النظافة، وينتقل إلى الإنسان عن طريق الحشرات كالقمل والبرغوث والكراد.
في سنة سنة 1938، طالبت جمعيةُ المعمرين من الغرفة الفلاحية بالدار البيضاء أن تعلن منطقة الساحل أولاد حريز منطقةً منكوبةً بسبب الجفاف. وفي مركز برشيد أقامت السلطةُ الفرنسية مركزاً وقائياً للحجر الصحي بمزارع الدرانة/ عبارة، ليستقبل المشردين والمعدمين المصابين بوباء التيفوس المعدي. لقد كانت تحركاتُ الجائعين وتركهم لقبائلهم، قاصدين قبائل أخرى، بحثاً عن لقمة عيش، تنقل معها التيفوس من مكان لآخر. فحاولت السلطة الفرنسية إيقاف زحفهم، وشيدت معسكراً لجمعهم، وفحصهم، وفرزهم، وتطهيرهم، وتلقيحهم كإجراءٍ وقائي لمقاومة الوباء. في كل يوم، كان المركزُ يستقبلُ عشرات المشردين الذين يتم جمعهم بالقوة من الطرقات، وتصنيفهم إلى فئتين: المشردون المحليون وكانوا يستفيدون من الألبسة والطعام ويُحتفظ بهم في المعسكر طوال فصل البرد القارس، والمهاجرون الغرباءُ الذين كانت تتم معالجتهم وإرجاعهم إلى مراكز الفحص التابعة للأقاليم الوافدين منها.
شُيد معسكر التوقيف والفرز فوق أرض مملوكةٍ للشيخ علي ولد الركيك العباري، أصبحت تحمل فيما بعد اسم "بوكليب" في السجلات العقارية. وبوقليب هو وباء الكوليرا، أُطلق عليه هدا الاسم لأن المريض يُحس بالألم في موضع بين البطن والصدر، فيتألم ويقول: " قليبي، قليبي". كان المركز يقع في منحدرٍ مائلٍ إلى الغرب، لا تراه العين، بالنسبة للعابرين طريق سطات. وقد جرى تسخير اليد العاملة الجنائية، أي المساجين، في عملية بنائه وتهيئة الطريق المؤدية إليه، وكدا استغلالِ المواد المستخرجة من حطام محطة السكة الحديدية العسكرية القديمة، مثل الأخشاب، والقضبان الحديدية، والأسلاك، والأحجار، وغيرها. وكان يشتمل على أربعة أجنحةٍ محاطةٍ بالأسلاك الحديدية، كل جناح هو عبارةٌ عن بيتٍ خشبي يرتكز على أرضيةٍ خرسانية، تُساعد على غسلهِ بالماء. يتسعُ الجناحُ الأول ل 300 شخص، وهو مخصصٌ للنساء والأطفال؛ والجناح الثاني ل 75 شخص، مخصصٌ للرجال؛ والجناح الثالث والرابع ل 120 شخص مخصصٌ للحالات المشكوك في إصابتها بالوباء. بالإضافة إلى مساكن للحراس المكلفين بمراقبة المعسكر ليلاً ونهاراً، لمنع المحجوزين من الهروب. وهو مزودٌ بالماء الشروب والإنارة، لكنه لا يتوفر على مطبخ، لأن واجبات الطعام المقدمة للمحجوزين كان تأتيهم من "البيرو"، أي مكتب المراقب المدني، وموقعه المعهد العالي للتكنولوجيا التطبيقية I.S .T.A حاليا.
في سنة 1935، تأسست الجمعية الخيرية الإسلامية ببرشيد، وهي التي كانت تشرف على طعام وكساء المشردين سنة 1938، تحت مراقبة ووصاية المراقب المدني. كان يرأسها القائد محمد بن عبدالسلام برشيد، ونائبه القاضي محمد المهدي الصقلي الذي خلف القاضي صالح الحريزي. خلال فترة الجفاف، اضطر بعض الفلاحين إلى بيع أراضيهم بأبخس الأثمان، وتنازل آخرون عنها مقابل ما يطعمون به بطونهم الجائعة، وحدثت تجاوزات في حق الدين تمسكوا بأراضيهم. كان القاضي صالح الحريزي يشغل منصبه لمدة 25 سنة، قضاها ببرشيد، ثم جرى نقله إلى بنسليمان، بطلب من السيد بيربي، رئيس ملحقة برشيد. هذا الأخير "مفكرٌ مثالي، وأحد بناة المغرب العصري، عمل إلى جانب ليوطي، وسيصبح المدافع عن السكان المحرومين ضد فضائع الأعيان الإقطاعيين. عارض أعمال السلب التي من شأنها الزيادة في ثروات كبار الملاكين. وخلال ولايته، لم ترتكب أية إساءة أخرى ".
في ربيع سنة 1938، أصيبتِ السيدة لياندري، معلمة بالمدرسة الإسلامية ببرشيد، بمرض التيفوس، وتطلبَ الأمر تزويد المدرسة برشاشات للاستحمام، وبناء قاعة الأكل لفائدة التلاميذ la cantine. لما تماثلت للشفاء حازت على " الميدالية الفضية للأوبئة"، وحصل الممرض محمد ولد الحاج عمرو الفقري على ميدالية من نفس الفئة، تشجيعاً له على انضباطه وكفاءته المهنية.
تعتبر النوادرُ من توابل التاريخ. فيقال بأن أحد الأعيان اصطحب معه أخاهُ عند الطبيب دولامار بالمستشفى الأهلي. ولما فحصه هذا الأخير، قال له: " أنت فيك فرسن" ، أي القمل في قاموس دولامار. طلب الطبيب من أخِ المريض الذهاب إلى قيسارية الكتان وشراء تشامير. ولما فعل الرجلُ ما أومر به وعاد، أعطاه صابونة وصفيحة ماء دافئ، وطلب منه أن يحمم أخاه. بعد الاستحمام، لبس المريض التشامير، وتنفس الصعداء، لكن دولامار قطع عليه لحظة الانفراج، بأن صفعه على وجهه بقوة، وقال له: " أنت تجيني فرسن بزاف، أنا نجي واعير بزاف".
وأخيراً نزلت الرحمة وفاض الخير. في ليلة السابع من نونبر 1938، بين يومي السبت والأحد، سقطت أمطارٌ طوفانية، غير مسبوقة، أغرقت مدينة بن أحمد، فانقطع عليها الماءُ الشروب والكهرباء. جرفت السيول البشر والدواب والدواجن والنوايل، وتابعت المياه تدفقها وهي تتبع المنحدر الطبيعي للمجال. وما هي إلا لحظات حتى قطعت نحو أربعين كيلومتر، ووصلت إلى برشيد، في الثانية صباحاً، محولةً مزارع لحباشة إلى بركة عائمة. وفي نفس الليلة، فاض وادي بنموسي القادم من سطات، وغطت المياه الطوفانية خط السكة الحديدية الواصل بين سيدي العائدي وبرشيد، وعطلت حركة القطار، وتحولت حقول التيرس بجنوب برشيد إلى مسطح مائي كبير.
00000
الصورة: الدكتور أدريان دولامار مع حفيدته صابين، في مدينة بنزرت بتونس، 1962.