هكذا نجحت الدولة في عزل المدرسة المغربية عن مجال الصراع السياسي
من الميثاق إلى الرؤية الاستراتيجية.
هكذا نجحت الدولة في عزل المدرسة المغربية عن مجال الصراع السياسي.
محمد ميلي
فاعل تربوي
Mellymohammed1982@gmail.com
يرى مجموعة من العلماء السوسيولوجيون أن المدرسة تعتبر من أهم الوسائل التي تسخرها الطبقات المهيمنة من أجل فرض استمرار تفوقها الاجتماعي، وتشكل نظرية إعادة الإنتاج للعالم السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو أهم ما أنتج في هذا الصدد، فهو يرى أن المدرسة هي الفضاء المناسب لإعادة إنتاج الأوضاع الاجتماعية السائدة وتكريس الفوارق الاجتماعية ، وقد تأثر الباحثون السوسيولوجيون المغاربة بنظرية إعادة الإنتاج خلال السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، واعتمدوا منهجها العلمي للتأكيد على أن صانعي القرار السياسي التعليمي بالمغرب استغلوا المدرسة لإعادة انتاج التفاوت الطبقي، ونطالع في تقرير الخمسينيةما يؤكد ذلك:" فمع بداية الثمانينيات بدأت المدرسة في التراجع... لتدخل في أزمة طويلة من بين مؤشراتها الهدر المدرسي، الرجوع إلى الأمية، بطالة حملة الشواهد... بسبب اعتماد مجموعة من الإصلاحات التي كان بعضها مرتجلا...والأخر غير تام... مما سيؤدي إلى جعل المدرسة تسير بوثيرات متعددة... مع تراجع أدائها" ، ومما يزيد من قناعتنا بأن الفاعل السياسي قد تورط في تسخير المدرسة المغربية لإعادة انتاج التفاوت الطبقي ما نطالعه في كتاب تاريخ المغرب تحيين وتركيب بأن" التدبير السياسي لملف التعليم قد خضع في كثير من الأحيان لاعتبارات ديماغوجية كان لها أكبر الأثر على ضعف أداء المنظومة. ومما يثبت هذا أن التعليم قد عرف ما لا يقل عن أربعة عشر مشروعا للإصلاح لم يستكمل أي منها مساره حتى النهاية خلال الفترة ما بين 1956 وسنة 1999."
اعترفت الدولة صراحة، في سياق شروعها في إحداث العدالة الانتقالية، بأن التعليم يعاني أزمة مزمنة جعلت الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله يعين لجنة ملكية خاصة لوضع مشروع ميثاق وطني للتربية والتكوين ، وحيث أن العدالة الانتقالية تقتضي مصالحة مع الماضي من خلال جبر الضرر الجماعي الناتج عن التلاعب في السياسات التعليمية، وحيث أن جبر الضرر الجماعي بشكل مادي سيثقل كاهل الدولة، فقد حاول الميثاق الوطني للتربية والتكوين إحداث مصالحة معنوية مع الماضي من خلال تبنيه للغة ذات طابع حقوقي تعترف بأزمة النظام التعليمي وفي نفس الوقت تؤكد على ضرورة القطع مع تعثرات الماضي من خلال التنصيص على ضرورة أن " يعمل نظام التربية والتكوين على تحقيق مبدأ المساواة بين المواطنين وتكافئ الفرص أمامهم وحق الجميع في التعلم، فضلا عن أنه نص على وضع حد لتعثر المبادرات والمخططات والبرامج المعتمدة في هذا المجال..."
مكن الميثاق الوطني للتربية والتكوين من تحقيق مجموعة من المكتسبات الهادفة أساسا إلى عدم تكرار تجربة الماضي التي استغلت فيها المدرسة من أجل إعادة إنتاج الأوضاع الاجتماعية السائدة وتكريس الفوارق الاجتماعية، من خلال العمل على العزل التدريجي لمدرسة عن مجال التقاطب السياسي، فتم إحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، ومجالس التدبير، والنظام الأساسي الخاص بالمؤسسات العمومية، وتنظيم الحياة المدرسية، وتشجيع التعليم الخاص، .... وهي مكتسبات تم تحقيقها في سياق تحسين جودة التعلم وقد تم تأطيرها بنصوص تشريعية تمت المصادقة عليها من طرف المؤسسات الدستورية المختصة حتى تكتسب طابع الإلزامية بهدف ضمان مواصلة الإصلاحات الهيكلية التي نص عليها الميثاق وبالتالي التقليص في نظرنا من مساحة تدخل الفاعل السياسي في قضايا التعليم.
لكن ورغم تلك المكتسبات، فقد طفى على السطح مجددا الحديث عن عدم قدرة المدرسة على تلبية حاجيات الأفراد والمجتمع فلا زالت المنظومة تعرف " ارتفاعا في معدلات الهدر والتكرار... واستمرار التفاوت في التعلم بين الأطفال المنتمين للمناطق الحضرية والقروية ...وضعف ملاءمة مواصفات الخريجين مع حاجات الاقتصاد الوطني "
فقد دخلت المدرسة من جديد في حلقة مفرغة عنوانها الرئيس هو إعادة إنتاج الأزمات وخاصة ما يتعلق منها بإنتاج التفاوت ، وقد شكلت سنة 2008 محطة حاسمة في مسلسل إصلاح المنظومة لمرحلة ما بعد الميثاق، حيث تبين جليا للدولة أن هذا الأخير ورغم المكتسبات التي حققها للقطاع فإنه لم يتمكن من تجاوز الاختلالات التي جعلت المدرسة عرضة للمساءلة والانتقاد باعتبارها مصدر كل الأزمات الأخرى التي يعيشها البلد، مما دفع بالدولة في إطار ما سمي بالمخطط استعجالي لإصلاح منظومة التعليم، إلى أن ترهن كل إصلاحاتها المؤسسية بالتعليم، باعتباره قطاعا أساسيا كفيلا بالرفع من القوة الاقتصادية والاجتماعية للبلد رفقة قطاعات أخرى، بل إن الدولة اعتبرت أن قطاع التعليم هو " المحك الحقيقي لأي إصلاح عميق ". ودعت الجميع إلى أن " يستشعر أن الأمر لا يتعلق بمجرد إصلاح قطاعي، وإنما بمعركة مصيرية "
لم تتوقف الدولة عند تشخيص الوضع الذي آل إليه القطاع، بل عملت على رصد العوامل المفسرة لهذه الحالة من خلال ابراز أهم عناصر الطرف الآخر في المعركة، ويتعلق الأمر باعتماد برامج ومناهج لا تتلاءم مع متطلبات سوق الشغل، وتغيير لغة التدريس في المواد العلمية، وإهمال تعزيز مكاسب المخطط الاستعجالي، والتأخر في تنفيذ المؤسسات الوصية لمقتضيات الميثاق فضلا عن التراجع وبدون إشراك أو تشاور مع الفاعلين المعنيين عن مكونات أساسية من المخطط كتجديد المناهج التربوية، وبرنامج التعليم الأولي...
إن التمعن في هذه العوامل التي فسرت بها الدولة عودة المدرسة إلى انتاج التفاوت والفشل يضعنا أمام إشكال كبير لا يمكن أن نفهمه وأن نعبر عليه إلا في سياقعودة الفاعل السياسي للتأثير في السياسات التعليمية للبلد، بعدما اضطرت الدولة للتراجع جزئيا عن هندسة المعالم سياسية للقطاع بسبب ما جاء به الربيع العربي من تغيرات على مستوى الدستور 2011، فقد تم التعامل مع القطاع من جديد بعقلية سياسية فشلت في إخراجه من أزماته بسبب ضعف وعيها بالسياق العام الذي أفرز السياسات التعلمية في مرحلة ما بعد الميثاق،وهنا وجبت الإشارة إلى أن المؤسسة الملكية كانت حريصة على" عدم إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية " وهو حرص نابع أساسا ،في نظرنا، من قناعة راسخة بأن تجاهل الفاعل السياسي لعامل التراكم، وتعصبه لمخططاته لن يمكن من وضع المدرسة في إطارها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الهادف إلى تأهيل الموارد البشرية بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية.
مع نهاية مرحلة المخطط الاستعجالي وفي سياق تقييم هذا الأخير، أكدت مجموعة من التقارير الوطنية والدولية أن المدرسة لازالت تعاني من مجموعة من الاختلالات مما جعلها عرضة للمساءلة والانتقاد من طرف الفاعلين، بل إن هناك من اعتبرها مصدر كل الأزمات الأخرى كالأزمة الاقتصادية بسبب عدم مواكبتها لسوق الشغل وأزمة القيم بسبب عدم قدرتها على تعزيز السلوك المدني لدى الناشئة والأزمة الاجتماعية بسبب فشلها في تكوين مواطن مسؤول ، فأكد هذا الوضع للدولة أن القطاع يجب أن يعزل عن مجال الصراع السياسي، وشكلت سنة 2013محطة أساسية في تاريخ إصلاح النظام التعليمي بالمغرب فخلالها تبين للدولة بما لا يدع مجالا للشك بأن " الوضع الراهن لقطاع التربية والتكوين يقتضي إجراء وقفة موضوعية مع الذات، لتقييم المنجزات، وتحديد مكامن الضعف والاختلالات" وفي هذا الصدد تعرض الفاعل السياسي لانتقاد شديد من طرف المؤسسة الملكية التي اعتبرت " أنه من غير المعقول أن تأتي أي حكومة جديدة بمخطط جديد، خلال كل خمس سنوات، متجاهلة البرامج السابقةعلما أنها لن تستطيع تنفيذ مخططها بأكمله، نظرا لقصر مدة انتدابها" .
واضح إذا أن الدولة مقتنعة بأن التعليم قطاع حساس يجب أن يتم إبعاده عن مجال التجاذب السياسي حيث "الجدال العقيم والمقيت، الذي لا فائدة منه، سوى تصفية الحسابات الضيقة، والسب والقذف والمس بالأشخاص، الذي لا يساهم في حل المشاكل، وإنما يزيد في تعقيدها" ولم تتوقف الدولة عن تشخيص الوضع المتردي للقطاع ورصد العوامل المتحكمة فيه وإنما عملت على إيجادالحل لهذا الوضع المتردي وهو حل رهين بإعادة النظر في أدوار المدرسة باعتبارها قادرة على إنتاج وإعادة انتاج أوضاع اجتماعية جديدة من خلال ضمان " الولوج العادل والمنصف٬ القائم على المساواة٬ إلى المدرسة والجامعة لجميع أبنائنا. والحق في الاستفادة من تعليم موفور الجدوى والجاذبية٬ وملائم للحياة التي تنتظرهم." وهو تحول عميق في مسار الإصلاح التعليميبالمغربفمع نهاية مرحلة تقييم الميثاق والمخطط الاستعجالي ستظهر اللغة الجديدة التي عملت الدولة على تسويقها في تعاملها من الحقل التربوي بالبلد،إذ تم الانتقال وبطريقة اهتزازية وفجائية من الحديث عن الإصلاح إلى الحديث عن إصلاح مرتبط بالتغيير " الذي يمس نسق التكوين وأهدافه " تغيير هدفه الأساسي الانخراط في مجتمع المعرفة والتواصل. وهو الأمرالذي لن يتأت إلا من خلال تفعيل المؤسسة الملكية للمجلس الأعلى للتعليم باعتباره المؤسسة الغير خاضعة للتقاطب السياسي، مما سيخولهاللعمل على " إنجاح هذا التحول الجوهري والمصيري٬ ليس بالنسبة لمستقبل الشباب فحسب٬ بل ولمستقبل المغرب٬ بلدا وأمة. لتشرع هذه المؤسسة في تسطير هندسة جديدة للقطاع ستشكل الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 عنوانها الأبرز وهي الرؤية التي ستعمل على تحقيق الإنصاف الحقيق وتكافؤ الفرص والجودة عبر الزامكل المتدخلين في قطاع التربية والتكوين عبر القانون 17.51، الزامهم بالعمل على تحقيق وظائف المدرسة المعاصرة بما يخدم هذا الوطن وأبنائه.
- تقرير الخمسينية، المنظومة التربوية، المعرفة، التكنولوجيا والابتكار، ص 14، 2006
- تاريخ المغرب تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط، 2011، ص 685.
- راجع خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في افتتاح الدورة الخريفية للسنة التشريعية الثالثة، الرباط 8 أكتوبر 1999
- الميثاق الوطني للتربية والتكوين
- المجلس الأعلى للتعليم، حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها، الجزء الثاني، التقرير التحليلي، الهيئة الوطنية لتقويم منظومة التربية والتكوين 2008، ص 8.
- المجلس الأعلى للتعليم، حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها، مرجع سابق، ص 9.
- راجع الخطاب الملكي بمناسبة التاسعة لعيد العرش، 30-07-2008.
- جلالة الملك محمد السادس، خطاب العرش 30 يوليوز 2009.
- خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 60 لثورة الملك والشعب، 20 غشت 2013.
- يمكن في هذا الصدد مراجعة: المجلس الأعلى للحسابات، تقرير حول تقييم المخطط الاستعجالي لوزارة التربية الوطنية، ماي 2018. خلص التقرير إلى أن المخطط الاستعجالي لم يحقق جميع أهدافه واظهر مجموعة من الاختلالات أهمها استمرار الهدر المدرسي، الاكتظاظ، غياب شروط التمدرس في المؤسسات، فائض وخصاص هيئة التدريس، محدودية برامج الدعم الاجتماعي، عدم مصداقية المعلومات التي يوفرها النظام المعلوماتي الغير المندمج. ص 89.
- يمكن في هذا الصدد مراجعة:مجموعة البنك الدولي، المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمنع التطرف العنيف، أكتوبر 2016، صنف التقرير المغرب ضمن الدول الكبرى المنتجة للمجندين في صفوف داعش وربطت الدراسة بين المستوى الدراسي للمجندين والتطرف وخلصت إلى أن 69 في المائة من المجندين حاصلين على تعليم ثانوي على الأقل ص 13-14، الشيء الذي يدفعنا للتساؤل حول نوعية المعارف التي تلقوها في المدرسة وعما إذا كانت المدرسة تقوم بالدور المنوط بها من حيث ترسيخ قيم التسامح والاعتدال والاختلاف والسلم؟
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، التقرير التحليلي حول تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013 المكتسبات والمعيقات والتحديات، دجنبر 2014، ص 09.
- 17 المرجع نفسه.
- خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 60 لثورة الملك والشعب، 20 غشت 2013.
- المرجع نفسه.
- خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 59 لثورة الملك والشعب 20 غشت 2012. رسم هذا الخطاب المعالم الجديدة التي يجب أن يتبعها المجلس العلى للتعليم في هندسته للمنظومة التربوية
- المرجع نفسه.
- المرجع نفسه.
- خطاب ثورة الملك والشعب 2012