إشكالية الهوية عند أولاد حريز، النحن والآخرون (الجزء 1)
برشيد نيوز/ بقلم طهير الجيلالي
هاتفتُ أَحد الأَصحاب القدامى، مدير إقليمي للشغل سابقا، من مواليد أولاد زيان، لأُطمئن على أحواله بعد بلوغ التقاعد، فأنكرَ وجودي، ولم يتذكر ذكراي. إن محو اسم شخصٍِ من ذاكرةِ امرئ إنما هو نفيٌ لوجوده . وبالمقدار عينه، هو إلغاءُ هذا الشخص نفسه لهويته، لأن فقدان الذاكرة يعتبر فقداناً للهوية. إن كبت الماضي والتآمر عليه يجعل الإنسان متخلياً عن نفسه باستمرار، إنسانُ الأمس ليس إنسانَ اليوم، وإنسانُ اليوم ليس إنسانَ الغد، حتى يموت فارغاً، محروماً، بدون هوية (1).
أولا: جذور الهوية الحريزية
الهويةُ هي أن نتصور من نحن، ومن هم الآخرون. إنها حقيقةً نفسانيةً مشحونةً بالمتخيل، أي بالأفكار المسبقة، وبالمشاعر والأحاسيس، والمعتقدات والتصورات التي يقوم الإنسان بتكوينها عن نفسه وعن الآخرين. لا يمكن أن تكون إنساناً إذا لم تكن منتمياً إلى ثقافة ما، بوصف هذه الأخيرة مجموعةً من التقاليد والعادات والمعتقدات. ولا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عن المتخيل، لأنه بحاجة إليه كي يؤسس وجوده ويعطيه معنى. أَولاد حريز هم " النحن"، أي الأنا الجمعي، وما نُمثله لبعضنا البعض من تشابهٍ ومن اختلاف، يمنحنا خصوصية تميزنا عن الآخرين، أي أصحاب الهويات الأخرى. تُحدث لفظة "أولاد حريز" وقعاً متنوعاً في نفوسنا، بحسب سياقها في التركيبات الكلامية. عندما تأتينا مقرونةً بالكرم والسخاء، تفيضُ الكؤوس وتتطاير الأوراقُ المالية في الفضاء من فرط النشوة. وعندما يأتي استعمالها في إطار سلبي، نستشعرُ وكأنها إساءةٌ تُعكر النفوس. فعلها المرحوم المصطفى شكري الفقري، بيتشو، نجم الرجاء البيضاوي، وكان معه المرحوم عبد الرحيم الرفالية، عندما كسر زجاج مقهى بالدار البيضاء لأنهم شتموا له أولاد حريز. ولما أحضروا له الكوميسير الحيرش، تظاهر هذا الأخير بنقله إلى المخفر، ثم أخلى سبيلهُ في منتصف الطريق، لأنه أيضا فقري من أولاد حريز. ترتبط الهوية الحريزية المستقرة في النفوس بمجموعة الفقرا أولاد سيدي عمرو بن لحسن. هؤلاء فرضوا هويتهم الخاصة على المجموعات الضائعة الأنساب، مثل لحباشة وسواهم، من شتات القبائل المنهكة التي منحها الاستقرار فوق المجال هويةً جديدة، حتى نسيت جذورها القديمة، وبدأت تاريخاً جديداً. "التاريخ هو حفظ الماضي، إنه استرسال، إنه ذكرى. أما الانقطاع فهو ما قبل التاريخ" (2). مع مرورِ الزمن، تغير مدلولُ اسم أولاد حريز بِتغير الأحوال، ولم يعدْ يطابقُ محتواه. فالهويةُ تتغيرُ على مدارِ الوقت، والذاكرةُ تظل قيد التكوين دائماً، تحيي، تنمو، تتغير، وتموتُ بسبب الاستلاب. في البداية، كانت التسميةُ تُطلق على الفقرا أولاد سيدي عمرو بن لحسن، وهم مجموعةٌ بشريةٌ متماسكةٌ، تنتمي للجدِ الواحد، منذ أن كانت تعيشُ حياة الترحال مع القطعانِ، بين مراعي الصيف ومراعي الشتاء، بين هضبة تادلا والأطلس المتوسط. أي قبل أن تُغريها حياةُ الاستقرار والتعاطي للزراعة بسهول تامسنا. ثم حدثت فراغاتٌ ديموغرافيةٌ، جعلت مجموعاتٌ جديدةٌ، غالبيتهم من الأمازيغ المستعربين، تلتحق بهم على دفعاتٍ متتاليةٍ، حتى أصبحت السلالةُ الواحدةُ تخفي في طياتها التنوع في أصولِ السكان. وإلى الآن، لا يزالُ الفقرا أولاد سيدي عمرو بن لحسن يتباهونَ بسلالتهم العِرقية الخالصة، المبْنية على روابط الدم العربي المشترك. وأما المستعربون، أمثال لحباشة وسواهم، فيعرفون بأن هويتهم ترابيةٌ، مستمدةٌ من الأرض التي منحتهم إياها، ولا علاقة لها بالتصور العرقي للهوية إلا من خلال الجد الوهمي: " جد الشرفا، وجد العوام"laïcs chorfas et. إن أسماء الدواوير التي يقطنها أولاد سيدي عمرو بن لحسن يهيمن عليها النسبُ الأبوي، مثل أولاد لحسن وأولاد قاسم وهم أولاد عبد الله بن سيدي عمرو بن لحسن، وأولاد العسري وهم أولاد علي، وأولاد علال وهم أولاد عثمان، الخ. أما أسماء دواوير لحباشة فتحمل شحناتٍ ذاتُ مدلولٍ فلاحي (الرحيحات، التشايش)، إن لم يكن جذرها الاشتقاقي يحيلُ على الماء في المجالِ الرعوي (جدد، القونة)، أو على أسماء قبائلَ أمازيغية قديمة، مثل زوارة، زناكة، قبالة. وتبقى الفائدة من الأصل الوهمي المشترك بين هذه الأطراف هي التضامن والنصرة التي توجبها صلة الأرحام.
ثانيا: العمراوية مفتاح الهوية
يخلقُ المتخيل ما يسمى ب"التمثلات" les représentations، وهي طريقةُ النظر إلى الذاتِ وإلى الآخرين بواسطةِ المرويات الشفهية، والأمثلة، والأساطير، والأغاني الشعبية . تُعتبر العيطة العمراوية إحدى المرجعيات الأساسية التي تحرك المتخيل الحريزي وتُدعمه، كونها تستعرضُ مثاليةً الأب الأسطوري، والجد الأول، سيدي عمرو بن لحسن، كبداية لكينونة أولاد حريز، ووجودهم، ووعيهم بهويتهم. لا يتأتى فهم هذه القطعة الفنية عن طريقِ شرحها تاريخياً، وتحليلِ الظروف والسياقاتِ التي حكمت نشأتها، وإنما بالاندماج فيها كذاتٍ، والانفتاح على دعوة الرحلة التي تقدمها لنا. تتغنى القصيدة بالهجرة المضادة إلى الوطن الأصلي في بلاد السراغنة. وفي غياب الاعتراف بمؤلفها، تبقى مجهولة المؤلف، ويتم تداولها بشكل جماعي لتمرير تمثلاث المتخيل عند الآخرين، بلُغةٍ تزخر بصورٍ بلاغية رفيعة، وبكلمات مختارة بدقة وعناية. تحمل القصيدة جغرافيتها، وتاريخها، وتغرقُ في المشاعر والخيال دون أن تترك مجالاً للتفكير، والعقل، والمنطق. يتم غناؤها على عزف الناي والدفوف، أو على آلة الكنبري بثلاثة أوتار، فيحسب السامع (وليس السميع) أنه أمام شخصين يعزفان كل واحدٍ على آلة بوترين. إنها تَرسمُ لنا خريطة الطرقاتِ التي سلكها الأجدادُ الرحل مع قطعانهم على امتدادِ القرون، وتستعرضُ مثالية الولي سيدي عمرو بن لحسن كشخصٍِ يحملُ في صميمه عِدةَ شخصياتٍ تمتد فيه وتسترسل. فهو في آن واحدٍ الأبُ المتعالي، والعابدُ المتصوف، والشريفُ القريشي، والطبيبُ المداوي، والأسطوري المُخصب il est une personne surdéterminée. يضع أولاد حريز أنفسهم في مقام الأنا الطِفْلية التي تطلب وترضى، فيتحركون كقاصرين يبتغون الارتماء في حضن الأب، والتماهي معه والسكن فيه. نستكشف هذه الرغبة في تطهير الذات، وحُلم العودة إلى براءة الطفولة في الأبيات التالية: "برحو بالزيارة، ناضت فينا الغارة، عيالات ورجالة/ سيدي بْغيت نْجي ليكْ، شدني الزمان عليكْ، قلْ لو رضاكْ عليا/ الزيتون يشالي، مولاي عمرو الوالي، جيبو ليا ولادي، يفاجيو الهول عليا". هذه الصفة الأبوية الحانية تتزاوج مع صفة الأب القامع الذي يفرض الطاعة والرضوخ. فهو أيضا قوة روحية خارقة تراقب وتعاقب على ارتكاب المحظورات والممنوعات، وكل ما هو خسيس وسافلٌ يمس بشرف العائلة: السرقة، الغش، التخريب، الجريمة، التحرش الجنسي. ومن هذا المنظار، تُجسد الكنبوشيات، بنات الولي العذارى الراقدات في قبر جماعي، رمز الأخوة المقدسة بين الجنسين، لما تتميز به من صفات النقاوة والطهارة: " لَمنْ دوكْ لْحطاتْ، جاوني طرفياتْ توعْ لكنبوشياتْ، أحْنا ليكمْ خَياتْ". تتماهي سلطة الأب مع سلطة الوسيط المقدس، صاحب البركة، أي الشريف الإدريسي والصوفي رجل العبادة، وتشترك معهما في درجات السمو والرفعة، وفي النوراني والجنة، من خلال هذه الأبيات: "جَدكْ سلطانْ، اخدمْ وَسُرو بانْ/ جَدكْ قايدْ لْقياد/ جَدكْ شْريفْ والكلمة عالية/ كلْ عام الركبْ يمشي، جدك شريف قريشي/ موسم جدك عمر، ضو السادات ظهر، سعدات من حضر/ الصلاة والعبادة، سعداتْ من زارو، الكريم شعشعْ نورو/ الكاربون يشهللْ، سيد الحاج يهللْ، نوض تصلي الفجرْ، في جامعْ مولاي عمرو/ جدك شريف عزيزْ، يتساهلْ ذهب ولويزْ، خبارو في باريس". لا تنحصرُ دلالات الذهب على الغنى والخيرات، لأن وراء ما هو اقتصادي يكمن الديني والإعتقادي. فالزيارة الدينية للولي هي حج المسكين: "طلي شكون، لا يكون مولاي عمرو صاحب الفقراء". والذهب هو رمز مدن الأولياء، ورمز الجنة التي سيقان أشجارها من ذهب، كما جاء في حديث شريف رواه أبو هريرة. لا تخلو القصيدة من إشارات إلى عطر المسك وهو من روائح الجنة، وإلى التين والزيتون، تلك الأشجار التي أقسم بها الله في القرءان الكريم: " الكرمة في بابو، الريحة مسكية/ الخيرات موجودة عند مول الزيتونة/ مقامو في الجنة، عريس القيامة". لكن صحة النسب الشريف أو عدمه تبقى نقطة خلافية شائعة ومتداولة بأولاد حريز، يقابلها عدم توافق المؤرخين على انتساب الفقرا بني جابر إلى بربر بني زيان ولوتة. وإذا جادلهم الجادلون قالوا: "كلام الشياب راه في الكتاب/ لحباشة جاوْ يطلبو الظرافة، طلبو لبْسالة" . قد يقول قائل بأن اللقب ُيبرز صورةً مرغوبةً عن الذات، ويعبر عن تحقيقٍ وهمي لمكانةٍ عليا مرجوة. ومما لا شك فيه أن التلاعب بالذاكرة بهدف خدمة الهوية أمر واردٌ في مثل هذه الأحوال، لأن الذاكرة لا تولي اهتماماً بصحة الأشياء أو عدمها، بل يكفي أنها تؤمن بأهمية هذه الأحداث في تاريخها الثقافي، سواء وقعت أم لم تقع(3) . يتساءل البعض، ما محل باريس في الأغنية الشعبية؟ هل هي فصاحة نابعة من ارتجال الأعراب؟ أم ترقيع لفظي لضرورة الوزن والقافية؟ أم مؤشرٌ على التسامح والتحاور، وما تمثله الثقافة الحريزية من انفتاح وقدرة على احتواء الآخرين؟ لعل الجواب يأتينا من داخل القصيدة: " مولاي عمرو المشهور، شريف داك الجمهور". أي الجمهور الذي لا اسم له، وهم المحرومون من الذكرى، والذين ليس لديهم شيء يتذكرونه.
في إحدى مقالاته التي خصصها لموضوع الولي سيدي عمرو، بمجلة المتوسطيات، كتب الأستاذ محمد الطوزي، المتخصص في الإسلام السياسي، بأن جدته بنت الغزواني بوقنطار الحريزي، البيضاوية، كانت تستعيد عافيتها كلما قامت بزيارة لضريح الولي سيدي عمرو بن لحسن: "سيدي عمر طبيب، سيدي لحسن حبيب/ إلى بغيتي تزيان، ومتبقاشي نكدان، زور مول الديوان، العمل على النية". تتزاوج الوظيفة التطبيبية لصاحب البركة مع شخصيته الإخصابية التي تحمي الأرض، والزرع، والضرع من القحط. في كل سنة، يقوم أولاد حريز بتقديم قرابين على شرف سيدي عمرو بن لحسن: "العادة بلْعادة، العادة مرفودة، الثيران مقيودة، الخيرات موجودة". وبعد عملية النحر، يقومون بإبراح الذبيحة ضرباً بواسطة القضبان الحديدية، كي يجبروها على متابعة الجري، وفي اعتقادهم أن قِوى خفية معادية تريد لها السقوط قبل أن تقطع مجرى النهر. عندما تجتاز الذبيحة الماء، يعتبرونها إشارة سماوية على أن السنة الفلاحية المقبلة ستكون خيرا وبركة عليهم بالشاوية. وفي حالة سقوطها قبل الوصول إلى نقطة الماء، فذاك ندير شؤم، يجعلهم يصبون جام غضبهم على القراقرة، في عين المكان. ليست الذبيحة سوى وسيلة لنقل البركة من مكان إلى مكان، والطقس الخاص بها يتميز بمظهرين، أحدهما خارجي يتجسد في مشهد الذبح والحركات الاحتفالية التي تلتقطها عدسات الكاميرا؛ والآخر داخلي، باطني، يعبر فيه أولاد حريز عن مفارقتهم للزمن الدنيوي، والتوحد مع الزمن العكوسي، المقدس، الذي يستعيدونه ويعيشونه خلال تلك اللحظة (نظرية العودة إلى الأصول).
ثالثا: الهوية الحريزية، أي مستقبل؟
إن اجترار المتخيل عند أولاد حريز محكومٌ بأطياف قديمة، وليدة علاقة الإنسان مع الطبيعة، لم تعد قائمة في عالمنا اليوم، وليس لها مقابل موضوعي في الوقت الراهن. التاريخ يسير في خط مستقيم كالسهم، وهذا خطٌ دائري وراء الحنين إلى الأصول. "البدائيون لا يحبّون التاريخ لأنّ المجتمعات البدائية تفضّل أن ترى نفسها وكأنّها ثابتةٌ لا تتغيّر لكي تبقى على حالها كما خلقتها الآلهة"، يكتب شتراوس (4). فهل نحن بدائيون؟ "لكل عصر بدائيون، يكتب محمد عزيز الحبابي، وهم جميعاً الأفراد الذين لا ينسجمون مع وضعهم. إنها بدائية نسبية، وبحسب محتوى وقوة المعتقدات والأساطير لدى مجتمع ما، يمكن أن نحكم على درجة بِدائيته بالنسبة للمستوى العام لمَدنية العصر. إنهم دائماً عرضة شعورٍ خاصٍ عبر عنه روسو بقوله، "يُحس الناس أنهم مُلْقون، وتائهون في هذا الكون الرحب، وكأنهم غرقى في عددٍ لا نهائي" (5). وعبر عنه كلود ليفي شتراوس بأنهم يُعانون من تباينات دون أن يفهموها" (6). إن التذكر، والاستذكار، والتبجيل للولي سيدي عمرو بن لحسن بواسطة الاحتفال الموسمي بطقس العادة، والغناء المتكرر للعيطة العمراوية على جميع الآذان، الهدف منه صيانةُ الهوية، والمحافظة على توحيد المجموعات المكونة لأولاد حريز، وحدانيةً متخيلة، وكأنهم شخصٌ واحد. عندما يتراجع هذا الشعور الجمعي بالانتماء فذاك يعني أنهم يعيشون أزمة الهوية وفقدان التوازن النفسي. ما يحدثُ الآن هو أنهم لم تبق تحت تصرفهم سوى قصائد غنائية يتباهون بها في الأفراح، بينما هم في الواقع يعانون من تاريخهم والواقع يهزمهم. لم يعُد أبداً بإمكانهم أن يقوموا بالدور الذي كتبه لهم أسلافهم، وأن يقدموا أنفسهم كسلالة يقع على عاتقها الامتداد في المستقبل. قبل سنوات كانت مدينة برشيد، عاصمتهم، لا تزال تجمعاً سكنياً صغيراً حيث السكان يعرفون بعضهم البعض، يفكرون ويتذكرون بصورة مشتركة، ولا يختلفون حول قُدسية الجد المشترك. ومع تكاثر عدد السكان، وانتشار الشقق والعمارات، ازداد تباين القاطنين وعدم تجانسهم، ولم يعد الدرب كما في الماضي ذلك الفضاء الذي يُنتج علاقات اجتماعية ودينية متجانسة ومثالية. ومن هنا أصبح ما يعتبره حُراس الذاكرة الشرعيون ثقافة، يعتبره المهاجرون الجدد خرافة. نحن الآن دخلنا مرحلة الاستلاب l’aliénation الذي يتجلى في الطلاق بين الطبيعة والإنسان، وبين الدم والأرض. وما ظاهرة التشرد، واحتراف التسول، والانحلال الخلقي، والاعتداء اللفظي المتبادل بين سائقي السيارات سوى مؤشرات على تفشي الاستلاب. لقد توارت الذاكرة المشتركة التي تخلق روابط بين الناس وطفت على السطح شظايا عدة هويات مفتتة، يحملها مهاجرون جدد ينتمون لعدة جماعات مختلفة. كل هوية غريبة عن الأخرى، يستحيل معها الوصول إلى ذاكرة موحدة. إلى جانبها ظهرت هويات أخرى أكثر شخصية، مجزأة، وقصيرة الأجل éphémère ، ترتبط بالوظيفة وبالانتماء الحزبي. نحن نشاهد من قلب المدينة انتقال بعض الأفراد من الخضوع لإرادة الجماعة إلى تبجيل أيقونات تتقمص الآلة البيروقراطية أو الحزبية التي تشرف عليها، وتتماهى معها كمثال للذات، فتقول: "أنا الحزب، أنا الميم الحمراء، أنا الجيم الحمراء" l’identification à autrui . في عهد الحماية، كان المخزني عمرو قًَمْ يعتدي على الغير ويسوقهم إلى الباشا برشيد بتهمة إهانة المقدس الحريزي، ويقول له: "عايرو الجد نعم أس". وفي زمننا، مخبرون صغار قالوا لرئيس المجلس البلدي عن زملائهم بالبلدية وعن أصدقائهم في الحي بأنهم يشتمون الاتحاد الاشتراكي. عشنا انقسام المدينة العتيقة على نفسها، وشاهدنا أبناء الدرب الواحد، والوظيفة الواحدة، لا يشمون رائحة بعضهم، بسبب اضمحلال الهوية الجماعية المشتركة، وصراع الهويات الحزبية المتضاربة. "كيف تشتم الزهور بعضها؟!". وسط هذا كله، لم يفهمنا البعض عندما كتبنا بأن الهوية الحزبية، من زاوية علم الاجتماع السياسي، مبنية على الوهم، المتخيل، الايدولوجيا، ولها زمن قصير الأجل، لأنها متبوعة بتغيير الانتماء نحو منظمات أخرى متى جاءت الفرصة الأفضل.
في منتصف التسعينات، أطلق المجلس البلدي الذي كان يرأسه حزب الاتحاد الاشتراكي اسم عبد الرحيم بوعبيد على أحد الأزقة والمدارس ببرشيد، فقال لهم الوزير ادريس البصري بعروبيته الماكرة: " واش أولاد حريز تمو، بوعبيد عندو من يسمي عليه في سلا". إنه الكلام عن ترسيخ الذاكرة لمن لا يفقهون الغمز واللمز. ثم جاء مجلس الرئيس محمد بن الشيب وأطلق هذا الأخير اسم لحباشة، وأسماء أخرى هوياتية، على أزقة جديدة بحي مولاي رشيد، فانتفض الذين ليس لهم ذاكرة ضد هذه التسميات، وأزلوا اللوحات المعدنية من على الجدران. ولا زلنا نعيش معارضة البعض إطلاق اسم ادريس باموس على إحدى المنشآت الرياضية. ما لا يجب أن يغيب عن الأذهان هو أن الذاكرة التي يستحيل تدميرها، والتي تظل لابدة في البنيات العميقة، هي تلك التي تمجد باستمرار الأموات الرائعين، وأن محاربة أو محاولة تدمير الذاكرة بغباء قد يقوي هذه الأخيرة، ويؤدي إلى مفعول يعاكس المفعول المأمول، كما علمتنا القيسارية التي لا تريد أن تموت.
الجزء الثاني: محتوى الذاكرة الحريزية، الآخرون والنحن|.
>>>
الصورة: أولاد برشيد في ضيافة أولاد سعيد، صحبة الفنان عبدالرحيم رباب، من فرقة الزرهوني وعابدين (آسفي)
1 جويل كاندو ، الذاكرة والهوية،
2و5. محمد عزيز الحبابي، من الكائن إلى الشخص
4و 6 كلود ليفي شتروس، العِرق والتاريخ
3La mémoire s’oppose à l’histoire qui a une définition scientifique, extérieure, quand la mémoire est intérieure et subjective