بقلم الجيلالي طهير : أولاد مومن، النقابة وفواصل الفراغ.
بقلم الجيلالي طهير : أولاد مومن، النقابة وفواصل الفراغ.
برشيد نيوز : بقلم الجيلالي طهير
الحضارة في المفهوم الغربي هي تراكم التجارب المتوارثة جيلا عن جيل. بينما في لغة العرب هي العمران، نقيض البداوة، ويعني ملأ الفراغ بالبنيان، وبالبشروالثقافة. ولهذا، عندما يحدث انقطاع في التواصل بين النسل، يحدث الاختلال بين البشر والثقافة، يؤدي حتما إلى سقوط الحضارة والعودة إلى الصفر . أتبثت التجربة بمدينة برشيد، أن السياسيين القادمين من البداوة إلى التمدن تسكنهم عقليتان متناقضتان، عقلية البداوة القبلية المبطنة، وعقلية العصرنة الظاهرة للعلن. فهم دوما يخافون شبح الفراغ الملازم لهم، ويريدون أن يطمروه بأي شكل من الأشكال. ليس بغريب، أن تكون جميع المشاريع الصغيرة التي قامت بها المجالس المتعاقبة، إن لم تكن مملاة من طرف سلطة الوصاية، وهو أمر جد عادي في الدول الحديثة، يكون محركها الرغبة في التخلص من فزع الخواء الساكن في اللاوعي الرئاسي. إن إنجازاتهم لا تأتي لأجل الضرورة nécessité ، وإنما مرتجلة ومتسرعة، بدافع ملأ الفراغ vacuité وكوابيسه المستترة. ففي المغرب القديم، كل شيء كان يتم بالعلن وفق المعتقدات السائدة. كانت القصبات القائدية، ومن بينها قصبة آل برشيد، تبقى عرضة للإهمال والضياع لا يسكنها القائد الجديد، إن لم يكن من نسل القائد القديم، خوفا من سوء الطالع ومن فزع الفراغ. الأمر ذاته يحدث بطريقة مبطنه مع قيسارية برشيد التي بقيت مجرد بناية لملأ الفراغ، بدون بشر ولا ثقافة تجارية؛ بينما سُخِرت بنايات البلدية القديمة، والبلدية الجديدة، والمحطة الطرقية، ومركب الصناعة التقليدية، والمنتزه الأخضر، لغير البشر ولغير الثقافة المسطرة لها سلفا من طرف المجلس صاحب المشاريع الأصلي.
وعلى العكس من ذلك، لم يسجل أي إنجاز يستحق الذكر، من طرف المجلس البلدي الذي خلف حكم حزب الاتحاد الاشتراكي، لكون الفراغ أبدا لا يملأ الفراغ. أينما تولوا فثم وجه الله، باسثتناء بعض المشاريع المعرقلة لحركة السير، مثل "النافورة المحروسة"؛ وأخرى لا حول ولا قوة إلا بالعمالة، مثل " فندق التنمية البشرية". قال الباشا مولاي الطاهر العلوي، رحمه الله : " ما يصلح لمهمة مقدم الركب إلى سيدي عمرو بلحسن لا يكون بالضرورة مؤهلا لأن يحكم القبيلة، وقد لا يصلح لا لهذا ولا لذاك".
إن الكثير من الدوريات الصادرة عن وزارة الداخلية تتحدث عن التدبير المقاولتي للجماعات المحلية. غير أن الوحدات الترابية المعنية لا يمكن أن ترقى لهذا المستوى، أمام عدم تفعيل الفصل القانوني المتعلق بمحاسبة المواد comptabilité patrimoniale والذي لا يزال ينتظر منذ سنة 1977 استصدار مرسوم التطبيق. صدر مؤخرا تقرير عن المديرية العامة للجماعات المحلية يفيد بأن 5000 مستشار جماعي بالمغرب من أصل 30.000 أميون ، منهم 2579 مستشار بدون عمل. ويمكن أن نستلخص بأن السبب هو نمط الاقتراع بواسطة اللائحة الدي يخدم رؤساء اللوائح من أصحاب الشكارة، وهؤلاء ، عندما يكون مستواهم التعليمي ضعيف، فإنهم لايثقون في المتعلمين والمستقلين بالرأي، ولا حاجة لهم إلا بالسماسرة والمتسولين. علاوة على ذلك، فالعلاقات بين رئاسة المجالس المنتخبة والنقابات المؤطرة للشغيلة البلدية تحكمها الزبونية، بعيدا عن الحكامة الجيدة وتوخي المردودية المقاولتية. ومما لا شك فيه، فإن الطريقة التي تمنح بها التعويضات عن الساعات الإضافية، وعن الأشغال الملوثة والشاقة، هي ما دفعت بالبعض إلى تذوق حليب الناقة في دار الرئاسة، خلال الحملة الانتخابات الجماعية الأخيرة، دون التمييز بين وضعية الخماس في الضيعة ووضعية النقابي في مقر العمل. وأكيد أن الرسالة التي وجهها عامل الإقليم مؤخرا إلى رؤساء الجماعات، بهذا الخصوص، وارتياح خديجة بلمراكشي، رئيسة فرع إقليم برشيد للجمعية الوطنية لموظفي الجماعات الترابية، لهذا التحرك الإيجابي، ذليل على أن بعض الرؤساء يعتبرون الموظف في حكم صبي الخدمة. إن عدم إدراك تناقض مصلحة الكادحين مع مصلحة الباطرونا كانت من الأسباب التي حالت دون تكوين وعي جماعي للطبقة العاملة، وذلك قبل أن يؤسس حزب الاستقلال نقابته، بهدف ضرب الوحدة النقابية، وتمكين البورجوازية الفاسية من ممارسة أبويتها على الشغيلة في المؤسسات التابعة لها.
أتذكر وأنا في ريعان الشباب، كان الحي الذي أقطن به، وهو درب جديد، يعيش العمران المهووس بالخوف من العودة إلى الفراغ البدوي. فلم يكن عند أقراني من شباب الحي سوى الرغبة في الفوز في مباريات كرة القدم التي كانوا يخوضونها ضد الفرق التي تأتيهم من مدينتي الدار البيضاء والمحمدية. وقتها، كان يحلو لي الجلوس لقراءة الجريدة الحزبية، صباحا، وجها لوجه مع الشمس، بمضيق طارق، وهو البوابة الصغرى لحائط السكة الحديد، الفاصلة بين أوحال دوار الحاج عمرو الحائلة، ومياه درب جديد الآسنة. من هذا العالم الثالث، أو العالم الصفر، كان ينطلق كل صباح، مباشرة بعص صياح الديكة، كل من عمال الموقف وتجار الأسواق، يتبعهم الجزارون، والبناؤون؛ ثم التلاميذ المتوجهون إلى المدارس؛ ثم في الأخير، أصحاب المخزن والقيسارية، وعلى رأسهم: لمقدم السي الهاشمي، الحمداوي البراح، المذكوري الذلال، الطاهر أمين موالين الدجاج، بزيكر الجيار، هويشم بائع الشقيفات، الخ. يغادرون مساكنهم مبكراً كالعادة كل صباح، لكسب قوتهم بعرق الجبين، والصغار نحو المدرسة، لتحسين ظروف العيش في المستقبل القادم.
ذات مرة، وأنا على تلك الحال، اقترب مني رجل مسن، بمعطفه الأزرق ورزته الصفراء، الملفوفة حول رأسه الحليق، وذاعبني بالقول: " أشميسة أحسن من تخميسة، عا انقب، انقب، انقب". في أول لحظة، خطر ببالي أن الرجل يخاطبني بلغة الدجاج، دجاج زرزور السائح في كل مكان؛ وكان علي أن أنتظر عشرات السنين لأفهم أن كلامه يليق بأن يكون عنوان درس عن الحركة النقابية والحزبية بالمغرب. السر في التواصل بين جيل السي القصباوي والجيل الذي أنتمي إليه، هو أن أبناء الجيل القديم ولدوا في الأكواخ وعاشوا في مساكن أفقية من غير طابق، وأبناء جيلي ولدوا في مساكن أفقية من غير طابق، ويعيش في مساكن عمودية يصعب فيها التواصل بين الجار القاطن فوق أو تحت وليس بجانب. فكيف حال التواصل عند أبناء جيل يزدادون ويكبرون في المنازل العمودية من عدة طوابق؟
قليلون يفهمون بأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ليست غير الإسم العصري للانعاش الوطني الذي كان الكثير من المعوزين يخجلون من الاستقوات على حسابه. وبأن المهرجان الثقافي السنوي ليس غير النسخة المعاصرة ل " الدور" المنظم سنويا من طرف الطلبة، مثقفوا عصرهم، وأهل الحل والعقد في مغرب الأمس. أو ليس "ذليل الخيرات" في مقابل "ذليل الأستاذ في مادة الفيزياء"، هو نفسه السلاح المعنوي الذي يميز الفقيه التقليدي والأستاذ العصري بداخل الفضاء المجتمعي؟ إن ملائكة الموسم الفلاحي الذين رفعوا شعار "الحبوب والقطاني أساس الأمن الغدائي" لا يتذكرون قول الحسناوي في الحلقة: " كاع لبلاد درتوها ديور، واحد النهار تاكلو الصدف". وربما البعض لم يسمع بالأغنية الإشهارية القديمة للقرض الفلاحي في تلفزة الأبيض والأسود: " كون كانو لفلوس يتزرعوا كون زرعتهم، كون كانو لفلوس يتحصدو كون حصدتهم، الخ."
لم يكن الرجل المسن، الذي حاورني، غير المرحوم السي القصباوي، المزداد حوالي 1904، وهو ينتمي للرعيل الأول للشغيلة التي صنعت الطرق المعبدة التي نسير عليها باتجاه مديونة، بوسكورة، الكارة، السوالم، ابن أحمد، الخ . أمثاله من الحكماء لا يستخدمون مصطلحات سياسية، لكن لذيهم معجم فلاحي عميق يفي بالغرض. مؤخرا، قال شاب من جماعة لمباركيين، متحدثا عن معرض براكة الأمين : " ولد لحريزي دار عرض في المعرض على الماء وخيزو". لكن البصيلي، المستمع إليه، وهو من قدماء حزب الكاكية، لما كان العربي ولد الفرجية هو رئيس الغرفة الفلاحية، تخيل مع نفسه أن صاحب العرض أحضر بقرة إلى المعرض وقدم لها خيزو والماء لتأكل وتشرب. وسأله: " وحتى أنت كنت من العروض؟". أي من المدعويين، والكلمة طبعا حمالة أوجه.
في الورش، الذي يسميه " الشانطي"، كان السي القصباوي يشكل مع بقية زملائه مجموعات صغيرة، من عشرين فردا، تشتغل الواحدة بعيدة عن الأخرى بمسافة كبيرة. وكان ضابط عسكري متقاعد، من قدماء المحاربين بالجزائر، من الذين يتقنون اللغة العربية، يتولى مراقبتهم، متنقلا بين المجموعات على صهوة حصانه. وفي كل نقطة يتوقف بها، كان يستريح تحت قيطون صغير ، يحتمي فيه من حرارة الشمس. كان الضابط الفرنسي يتعامل مع هؤلاء العمال بطريقة وحشية. إذ عندما يباغث أحد العمال وهو يستظل تحت القيطون، يهدمه عليه، ثم يأخد عصا غليظة ( المانكو) ، ويشرع في الضرب بها على جسده، حيثما أتت الضربة، في الرأس أو في الضلوع، بينما المسكين يترنح تحت القيطون، حاميا رأسه بين يديه، حتى لا يصاب بالإغماء.
لم يسلم العمال من بطش الضابط إلا عندما ابتكرت إدارة الأشغال العمومية وظيفة "الكابورال"، أي الكابران، وهو شخص تختاره الإدارة من بين العمال، لقوة شخصيته، كي يشتغل وسيطا بينهم وبين الضابط . عندما يكثر الحديث، ويحصل التراخي، يقول الكابران لزملائه: " سايي، سايي، ترافاي، ترافاي". كان الكابورال يملك الحق في تشغيل أبناء عمومته وأبناء دواره، كي تسير الأمور على أحسن ما يرام على يديه. وأشهر كابورال في تاريخ الأشغال العمومية ببرشيد هو الكابران الحاج علي بورويس، من مزارع أولاد مومن، الجذر الأول للحركة النقابية ببرشيد.
ففي سنة 1931، تم تعيين المهندس ماريا مديرا لمركز الأشغال العمومية ببرشيد، للإشراف على تهيئة الطرق المؤدية من وإلى برشيد. والمعني بالأمر مهندس من العيار الثقيل،كان يتوفر على كفاءات وخبرة نادرة. سبق له وأن اشتغل في إيران ، بطلب من الحكومة الإيرانية، حيث كان يشرف على إدارة بناء السدود ومصانع توليد الكهرباء؛ ثم عمل بهانوي في الهند الصينية، حيث أشرف على إدارة أشغال السقي. وبالمغرب، أسندت له إدارة شبكة توزيع الماء الصالح للشرب بمدينة الدار البيضاء؛ ثم بمراكش وتادلا في أعمال السقي. وأخيرا، انتقل إلى برشيد، لتبدبير أشغال الطرق، وبها أدرك سن التقاعد عن العمل، في شهر دجنبر 1936. ولأنه كان من أبطال التنس، فقد أحدث فرعا لهذه اللعبة بالنادي الرياضي لبرشيد (الكاب) .
في سنة 1931، لم يكن معروفا شيئا اسمه النقابة. وحين صعود الجبهة الشعبية إلى الحكم في فرنسا، وهي ائتلاف شيوعي اشتراكي، تم استصدار ظهير 1936 المتعلق بالحق النقابي للأوروبيين دون سواهم، حيث كان يسثتني المغاربة ويعرضهم للعقوبة الحبسية في حالة تبوث تعاطفهم مع الشيوعيين أو الانخراط في النقابة. في تلك الحقبة، كان الشيوعيون ينشطون نقابيا بالضيعات الفلاحية، ويطالبون بالمساواة في الحقوق بين العمال الفلاحيين المغاربة والعمال الأجانب؛ بينما كان الصدر الأعظم، ممثل المخزن، يفضل أن يكون تأطير هؤلاء العمال المغاربة عن طريق إحداث تعاونيات خاصة بهم، وليس في إطار النقابة المستوردة.
وفي هذا الإطار، تم اعتقال 16 عاملا فلاحيا بإحدى الضيعات الفلاحية بمزارع أولاد مومن، أولاد آمحمد، بتهمة الانتماء للنقابة وحمل أفكار شيوعية. جرت محاكمتهم، بمحكمة القائد، بسوق الاثنين، وصدرت أحكام بالسجن لمدة 3 أشهر في حق الهاشمي بن أحمد، وأحمد بن الطيبي، وأحمد بن الطاهر، وعلى الباقين بشهر واحد حبسا.
قام الشيوعيون بتعبئة أنصارهم وتظاهروا أمام مكتب المراقب المدني بساحة فرنسا ( ساحة الاستقلال حاليا) للمطالبة بإطلاق سراح رفاقهم. فتم اعتقال اثنين من الكوادر الشيوعية، على الصعيد الوطني، وهم ادريس العلوي ومحمد بن عمرو (المدعو هوشيمين). لكن هؤلاء طالبوا بمعاملتهم على أساس أنهم معتقلون سياسيون، وخاضوا إضرابا عن الطعام، إلى أن تم إطلاق سراح رفاقهم المحبوسين.
أصبح الشيوعيون يحظون بشعبية كبيرة بالمنطقة، لدرجة أن فرع الحزب الشيوعي ببرشيد وتادلة أرسل برقية إلى الكاتب العام للحزب الشيوعي الفرنسي، موريس طوريس، يدعوه فيها لزيارة المغرب، لأن المغاربة يحبونه أكثر من علال الفاسي. خلال تلك الفترة، كان حزب علال الفاسي لا يزال حزبا بوزجوازيا مغلقا، يدافع عن مصالح فئة حضرية معينة، ولم ينتفتح بعد البوادي. وكان الشاب علال الفاسي قد ألقى خطابا شهيرا بطنجة قال فيه: " يمكن التغاظي عن سلب الأراضي الفلاحية من طرف المعمرين، لكن المساس بالإسلام خط أحمر".
ما فتئ المرحوم السي المصطفى زروال، عم عبد اللطيف زروال، من أولاد مومن، يحدثني، قيد حياته، عن رعاة الغنم الذين أصبحوا أسيادا مع بزوغ الاستقلال، وعن مشاهدته علي يعتة، زعيم الحزب الشيوعي المغربي، وهو يطوف بين الضيعات الفلاحية، قادما إليها من مدينة الدار البيضاء على متن دراجته الهوائية. ومثلما نجحت النقابة الشيوعية في استقطاب عدد من المتعاطفين بمزارع أولاد محمد، استطاعت الحركة الطرقية، الموالية للاستعمار، التوغل وكسب المريدين بمزارع لحباشة، حيث تزوج القطب الشيخ عبد الحي الكتاني من خديجة بنت الفقيه الحاج إسماعيل، كبير دوار السلاهمة. فليس من غريب الصدف، أن يقوم عبد القادر زروال بفتح مدرسة قرءانية بمزارع أولاد مومن، لمحاربة المد الشيوعي الأحمر، وتمكين الأطر الوطنية لحزب الاستقلال من ربط الاتصال بالفلاحين بمنطقة أولاد حريز. وليس من باب الصدف أن يدشن بوشعيب بن الحاج إسماعيل، صهر الشيخ عبد الحي الكتاني، أول خلية سرية لنفس الحزب بأولاد حريز، من أجل تكسير شوكة الزاوية الكتانية المهيمنة بالناحية.
كما هو معلوم، ليست مدينة الدار البيضاء بالمدينة العتيقة، فهي لم تكن شيئا في بداية عهد الحماية، إلا أنها عجت بالبدو الهاربين من القحط، باحثين عن لقمة العيش، أصبحوا بمرور الزمن بيضاويين، دون قطع الصلة مع مواطنهم الأصلية. هؤلاء، هم الذين مكنوا حزب الاستقلال من الانفتاح على البوادي، ابتداء من منتصف الربعينات، لقيامهم بصلة الوصل مع الأهل والأقارب في الدواوير. لقد جاء التلاحم بين بدو بيضاوة وبين أقطاب الحزب الحركة الوطنية البورجوازية كنتيجة لثأثر البلاد بالأزمة الاقتصادية العالمية. ففي بداية الثلاثينات، تضررت البورجوازية الفاسية من جراء تعرض الصناعة التقليدية للمنافسة، ووجد العلماء التقليديون، ممن كانوا يعيشون على حساب المخزن، أبناءهم الذين ولجوا المدارس الفرنسية بعدد كبير ، ابتداء من سنة 1927 ، مهمشين على حساب الأوروبيين الدين كانوا يحظون بالأسبقية في مجالات التوظيف. فكانت أسهل طريقة لهذه الطبقة الراقية هي تجنيد البدو ،الدين قدفت بهم المجاعة إلى المدينة، لتقوية شوكة حزب الاستقلال، والدفع به للتفاوض بكل أريحية مع السلطات الاستعمارية.
بدأ نجم الشاب علال الفاسي في السطوع شيئا فشيئا بعد نفيه إلى الكونغو، من طرف تلك السلطات التي زعمت أن السلطان سخط عليه، وأنها عثرت على وثائق تتبث نيته في إقامة خلافة إسلامية. وبعد العودة من المنفى، فكر علال الفاسي في التوفيق بين نظرية الحزب الوحيد المتبعة عند الشيوعيين، وظاهرة الزوايا المتبعة من طرف الشريف الكتاني، فأسس حزب الاستقلال، وفرض قسم الوفاء على المصحف الشريف على المنخرطين، مثلما كان يفعل مولاي إسماعيل مع عبيد البوخاري حين أقسمهم على الصحيح.
ما هو السبب في تراجع الحزب الشيوعي المهيمن على الساحة أمام إشعاع حزب الاستقلال؟ توجد عدة أسباب، من بينها استحالة تطبيق الفكر الإلحادي في مجتمع تقليدي يعتنق الإسلام، بالإضافة إلى موقف الحزب الشيوعي المتخادل إزاء مطالبة المغاربة بالحرية والاستقلال. قبيل الانخراط في الحركة الوطنية، عرج المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد على الحزب الشيوعي، وعند طرحهما السؤال حول الموقف من استقلال المغرب، قيل لهما أن الأمر لا يدعو للاستعجال، ويجب انتظار وصول البلورتاريا الفرنسية الى الحكم بفرنسا، وهي التي ستمنح الاستقلال للمغاربة. وهكذا، أغلقا الباب في وجه الحزب الشيوعي، والتحقا بالحركة الوطنية، وبعد أشهر قليلة كان التوقيع من طرفهما على وثيقة الاستقلال.
يقول الراحل الملك الحسن الثاني في حق الشيوعيين المغاربة : " لم يسبق لهؤلاء الذين كانوا ينتمون للحزب الشيوعي أن فاهوا بكلمة تعطي الانطباع على أنهم علمانيون. كان تعاطفهم مع الشيوعية تعاطفا منهجيا أكثر منه إيديولوجيا. يذهبون إلى الحج عندما تتاح الفرصة لذلك، وأي زواج كانوا يحتفلون به، كان يتم وفق الشريعة الإسلامية" (ذاكرة ملك). وعندما سلب حزب الاستقلال منصب الكتابة العامة للمركزية النقابية ، الاتحاد المغربي للشغل، من الطيب بوعزة، المحسوب على الشيوعيين، بطريقة غير ديموقراطية، وأعطاه للمحجوب بن الصديق، المحسوب على حزب الاستقلال، أنصف الملك الحسن الثاني الطيب بوعزة، وعينه سفيرا للمملكة المغربية بإحدى دول أوروبا الشرقية.
كيف أخفقت النقابة الشيوعية في غرس الوعي الطبقي في عقلية الشغيلة العاملة؟ إن النقابة بالمغرب لم تأخذ عند تأسيسها نفس المسار بالدول الغربية. كان التشرد déracinement الذي عاشته الطبقة العمالية بأوروبا تشريدا فرديا. أي أن المهاجرين الفرنسيين من القرى نحو المدن ، وهم الأقنان المنقطعون عن العمل بالأراضي المملوكة للاقطاع، كانوا أثناء تشردهم بالمدن لا يعرفون بعضهم البعض، وبالتالي استطاعوا تشكيل وعي طبقي عمالى، مؤسس على فراغ، مكنهم من الالتحام والدفاع عن مصالحهم في وجه البورجوازية الصاعدة. وأما التشرد الذي عاشه البدو المغاربة، أثناء الهجرة إلى مدينة الدار البيضاء ، فكان تشردا جماعيا. بمعنى، أن المهاجر القروي عندما يحصل عمل، كان يدعو عائلته للالتحاق به بالمدينة. فلم تحدث القطيعة مع القبيلة، بل ظل الأفراد من نفس الدوار أو نفس القبيلة يسكنون جوار بعضهم البعض، يتجمعون بنفس المقهى، يتغنون بنفس العيطة، ويزورون نفس المواسم، الخ . وبهذا، ظل الوعي القبلي المترسخ في الأعماق يعاكس بروز وعي الانتماء للطبقة العاملة.
لقد شكلت مزارع أولاد مومن حقلا خصبا لأنشطة النقابة العمالية الشيوعية، حتى إذا جاء عبد القادر زروال، الطالب بكلية بن يوسف بمراكش، يحمل آثار جحيم الباشا الكلاوي، جعل منها مهدا للحركة الوطنية وحزب الاستقلال. ومن سخرية الأقدار، أن شعب أولاد مومن لم يتبوأ المكانة اللائقة به في تدبير الشأن العام على عهد الاستقلال. لا يوجد ما يشهد لرمز أولاد مومن، الحاج عبد القادر بن زروال ولد الجيلالي، بالعرفان غير جمعية صغيرة تحمل اسمه، تكريما لشخصه، شجع على تأسيسها الدكتور المصطفى شكير، أثناء عودته من فرنسا.
إن وضعية عبد القادر زروال تكاد تشبه حالة والد المفكر المغربي محمد سبيلا. فيقول هذا الأخير عن والده، محاورا الشاب محمود عبد الغني، مدير مكتب الاتحاد الاشتراكي بالرباط: " كان والدي أحد أقطاب حزب الاستقلال على منطقة المذاكرة، وكان مكلفا بجمع الأموال، وكان في نفس الوقت من أغنى الناس في المنطقة. ومن حيث كان أمينا في نقل الأموال الى المسؤولين في حزب الاستقلال، فقد وجدنا أنفسنا في أول يوم من أيام الاستقلال، وأنا أنتقل من الابتدائي الى الثانوي، واقفا مع الثلاميذ على أبواب الخيرية لاستلام الكتب المدرسية والأقلام. في حين أن الشخص الذي كان مكلفا بجباية أموال الحزب، على مستوى الإقليم، أصبح من أغنى أغنياء المنطقة.... كنا نعتقد أن السياسة ميدان أخلاقي، وننظر إلى المناضل على أنه قديس وطاهر ومثالي. لكن فيما بعد تبين لنا أن السياسة غير الأخلاق، حتى ولو رفع السياسيون كل شعارات العالم الأخلاقية".
كتب عبد اللطيف زروال، شهيد منظمة إلى الأمام" في إحدى الرسائل الموجهة إلى والده: " أنت الذي جعلتني ثوريا يا أبي". كيف حصل ذلك؟ كان الأب المثقِف (بكسر القاف) رجل الآداب، وأصبح الإبن المثقَف (بفتح القاف) استاذ علم الاجتماع. إن الأدب وعلم الاجتماع كلاهما في خدمة الإنسان، غير أن الأدب يكتفي بالتقاط المشاعر التي تفرزها المصائب، تلك التي تجرتها السياسات الظالمة على الافراد؛ بينما علم الاجتماع يعرّي، يحلل، يفسر. وعلى عكس العلوم السياسية التي تدرس ما هو كائن، يتعدى علم الإجتماع ما هو كائن، إلى ما يجب أن يكون.
تجلت إنسانية عبد القادر زروال ، على الخصوص، في نشاطه المكثف بمكتب الخيرية الإسلامية ببرشيد، مطلع الاستقلال. يحلو له القول ، وهو يتحدث عن ذكرياته، بأن تسجيل الأطفال المعوزين بالمؤسسة الخيرية كان يتم من طرف أعوان السلطة، على يد باشا المدينة مولاي الطاهر العلوي؛ و ذات مرة، انتهز فرصة غياب هذا الأخير في العطلة الصيفية، وأخذ يطوف بنفسه في الدواوير، حيث سجل مائة طفل بالخيرية، ووضع الباشا أمام الأمر الواقع. " ما عجبوش الحال، وما صاب ما يقول".