بقلم زهير الحريزي : دروس الأولمبياد بين تسييس الرياضة وترييض السياسة
دروس الأولمبياد بين تسييس الرياضة وترييض السياسة
برشيد نيوز: بقلم زهير الحريزي
شكلت الميدالية الأولمبية و رفع العلم الوطني عبر تاريخ الألعاب الأولمبية انتصارا رياضيا بأبعاد سياسية و اقتصادية و ثقافية و قومية ... واستشرافا منها بدور الرياضة كواجهة لإبراز التفوق والتميز و بث الروح الوطنية، اهتمت الدول المتقدمة منذ بداية القرن 20 بالتخطيط و التنظيم و الصناعة الرياضية... فاشتد التنافس بين الأمم حول التنظيم وحصد الميداليات خلال فترتي ما بعد الحرب العالمية الأولى (برلين 1936) و بعيد الحرب العالمية الثانية (لندن 1948)، و بلغ أوجه خلال فترة الحرب الباردة ابتداءا من دورة هيلسينكي 1952. و منذ دورة برشلونة 1992 و مع تطور النقل التلفزي الرقمي و دخول الشركات المتعددة الجنسيات في احتضان الدورات الأولمبية، احتدم السباق بين الدول حول تنظيم الأولمبياد كأكبر محفل رياضي و واجهة عالمية لإبراز المقومات الحضارية والاقتصادية و الثقافية لكل بلد وجني الأرباح الرياضية و التجارية والسياحية و الإعلامية... و خير مثال على ذلك هو الرقم الفلكي لكلفة تنظيم أولمبياد بيكين 2008 و الذي فاق 26 مليار أورو (ك. بيرناردي.2014) كأكبر ميزانية رصدت لتنظيم دورة أولمبياد حتى الآن. و لازال ملعب العش الطائر ببيكين يصنف كأجمل و أرقى الملاعب العالمية (Genstide Sport) لهندسته وطاقته الاستيعابية و الأرباح التي تجنى من خلال تعدد استعماله في المجالات الرياضية و الثقافية و الفنية و السياحية.
المنحى التصاعدي للإمتاع والإبداع الرياضي للدول الرائدة تواصل عبر أولمبياد ريو 2016، و التي رسخت جدلية الترابط الكلي بين التقدم الاقتصادي و النتائج الرياضية، و هو ما تجسد من خلال الحوصلة التقنية لألعاب ريو، فقراءة جدول الميداليات لـ 87 دولة التي حصلت على الأقل على ميدالية من أصل 206 دولة مشاركة، يبين سيطرة القوى التقليدية الرياضية، إذ أن الدول العشر المتربعة على جدول الميداليات و التي تمثل 11,5% من مجموع الدول المتوجة و 5% من مجموع الدول المشاركة، قد حصلت على 59,3% من مجموع الميداليات الذهبية و 53% من مجموع الميداليات. فهذه المجموعة تضم الخمس دول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، و سبع دول من مجموعة الثمانية (G8)، و تنتمي كلها إلى مجموعة العشرين ((G20. اقتصاديا، تساهم هذه الدول بـ 51,8% من الناتج العالمي الخام لسنة 2016 (FMI)، و 47,8% من حجم التجارة العالمية (OMC) و 81,9% من مبيعات الأسلحة الدولية حسب معهد استكولهم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
تاريخيا، و منذ انطلاق الألعاب الأولمبية الحديثة بأثينا سنة 1896 و حتى دورة ريو 2016، نظمت الدول العشر 55,1% من الدورات الأولمبية وحصلت على 54% من مجموع الميداليات و 65,1% من الميداليات الذهبية. مما يؤكد البعد الاستراتيجي و الهيكلي للسياسات الرياضية بهذه الدول في تكامل وتناغم مع نجاح سياساتها الاجتماعية و الاقتصادية و العسكرية.
و من خلال القراءة العمودية والقطرية لتاريخ الحصيص المتراكم من الميداليات الأولمبية، استوقفتني ثلاث حالات تبين جدلية ارتباط النتائج الرياضية بالتخطيط والتنظيم الرياضي المحكم و البعيد المدى:
1) الدرس البريطاني
الطفرة النوعية لبريطانيا بتبوؤها المرتبة الثانية على جدول الميداليات في أولمبياد ريو (67 ميدالية منها 27 ذهبية)، أمام الصين و روسيا المنقوصة عدديا، تستحق التمعن و الدراسة. فقبل 20 سنة فقط، وبالضبط بأولمبياد أطلنطا 1996، لم تحصل بريطانيا حينها إلا على ميدالية ذهبية وحيدة خلف نجيريا و الجزائر، مما خلق وقتها ضجة و ردود فعل كبيرة تلتها قرارات جوهرية مست:
قرار الوزير الأول ج. ماجور بتمويل الرياضة الأولمبية من أرباح اليانصيب الوطني؛
استهداف الرياضات التي توفر أكبر الحظوظ للفوز بالميداليات كالدراجات والرياضات المائية و ألعاب القــوى بالدعم المــالي و اللوجيستيكي و المواكبة التقنية و التنظيمية و البحث العلمي؛
تنظيم أولمبياد لندن 2012 للاستفادة من التجهيزات والبنية التحتية ضمانا لإقلاع رياضي و سياحي مستدام؛
تطوير و تشجيع البحث العلمي في الهندسة الرياضية بخلق معاهد مختصة على غرار Sport Technologie Institut، و الذي ساهم بشكل كبير في تعزيز وتثمين طرق التأطير و التدريب و تتبع الرياضيين على جميع المستويات.
هذه الإجراءات المدروسة علميا و المدعومة ماليا و المحكمة تقنيا و زمنيا، مكنت دولة بريطانيا من الارتقاء من الصف 36 عالميا سنة 1996 إلى الصف الرابع سنة 2008، ثم الصف الثالث سنة 2012، فالصف الثاني بريو 2016، لتقدم أنجح نموذج في الارتقاء الرياضي الأمثل خلال العشرين سنة الأخيرة.
2) رومانيا والمنحى الانحداري
ارتبط اسم رومانيا كثيرا برياضة الجمباز النسوي و حضورها القوي في الرياضات الجماعية خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. و بلغت قمة المردودية في دورة لوس أنجلس 1984 بحصولها على 53 ميدالية، منها 20 ذهبية، مكنتها من تبوأ المرتبة الثانية وراء الولايات المتحدة الأمريكية. القراءة الكرونولوجية لحصاد رومانيا الأولمبي يؤكد المسار الانحداري لهذا البلد، فخلال الثمانينات صنفت ضمن العشر الأوائل أولمبيا، ثم ضمن 15 بلد الأوائل خلال التسعينات، لتتقهقر سنة 2008 إلى الرتبة 17 ثم الرتبة 27 سنة 2012 فالرتبة 47 بأولمبياد ريو 2016، و التي حصلت فيها رومانيا على ميدالية ذهبية وحيدة، إذ أن المشاركة الأخيرة اعتبرت الأكثر كارثية منذ سنة 1952، مما حدا برئيس اللجنة الأولمبية الرومانية بتحمل مسؤوليته و تقديم استقالته لفتح المجال أمام تقييم موضوعي للمسار الرياضي لهذا البلد.
و في هذا السياق، عزت نادية كومانتشي، أسطورة الجمباز الرومانية بأولمبياد مونتريال 1976، هذا التــدهور إلى نقص الــدعم المالي و غياب النـــوادي الخـاصة وهجــرة المـــؤطرين و المدربين و غياب الاستثمار الرياضي. فالجمباز الروماني الذي كان حاضرا في سبورة الميداليات طيلة 60 سنة بحصوله على 71 ميدالية، لم يتمكن على مستوى الفرق حتى من ضمان التأهل إلى أولمبياد ريو، و هو ما يفسر بتقلص قاعدة رياضة الجمباز إلى حوالي 400 ممارس فقط برومانيا، مقابل 4 ملايين طفل ممارس لهذه الرياضة بالولايات المتحدة الأمريكية التي حصدت نصيب الأسد من ميداليات أولمبياد ريو 2016، بفضل انخراط الجامعات الأمريكية في احتضان وتمويل وتأهيل الرياضة الأمريكية وفق برنامج USA Gymnastics University.
3) الانتكاسة المغربية
عرفت فترة الثمانينات من القرن الماضي بعض النجاحات الرياضية سواء من خلال تنظيم دورة الألعاب المتوسطية سنة 1983، و دورة الألعاب العربية 1985، مكنت من تعزيز البنية التحتية المغربية وتطوير بعض الرياضات، أو من خلال نتائج رياضة كرة القدم بكأس العالم 1986 أو التتويج الأولمبي لرياضتي ألعاب القـوى و الملاكمـة بدورتي لوس أنجلس 1984 و سيول 1988. إذ تمكن المغرب من التموقع في الرتبة 23 سنة 1988 وقبلها في الرتبة 18 سنة 1984 متفوقا على كل من البرازيل وإسبانيا و جامايكا. لكن تمة تساؤلات و استفهامات حول مسببات انتكاسة الرياضة المغربية بدورتي لندن 2012 و ريو 2016 و التي تجسدت في غياب الرياضات الجماعية على نقيض المشاركة المستمرة لكل من مصر وتونس في هذا النوع من الرياضات، إضافة إلى تذيل ترتيب الدول في أسفل جدول سبورة الميداليات.
و يمكن تلخيص أسباب تدني المستوى العام للرياضة المغربية في ما يلي:
التأثير السلبي لبرنامج التقويم الهيكلي (PAS) بداية الثمانينات على القطاعات الاجتماعية و خاصة التعليم و الصحة و الشباب و الرياضة؛
إفلاس الرياضة المدرسية و الجامعية و التي تشكل المشتل و القاعدة الأساسية للممارسة والانتقاء الرياضي؛
خوصصة المدرسة العمومية و خلق مؤسسات حرة لا توفر الشروط المطلوبة للممارسة الرياضية؛
الزحف الإسمنتي على الفضاءات و الملاعب الرياضية و دور الشباب نتيجة سوء تدبير تهيئة المجال، قلص من هامش التنقيب عن المواهب الرياضية؛
نقص التجهيزات و ملاعب القرب مرتبط بضعف الوعاء العقاري؛
غياب الحكامة و الديموقراطية و التنظيم و نقص الكفاءات بجل الأندية و الجامعات الرياضية التي أصبح معظمها هدفا لفئة من السياسيين و بورجوازيي الطفرة العقارية لتقلد المناصب باعتبارها مصعدا اجتماعيا و رأسمالا رمزيا؛
فشل برنامج إعداد و متابعة رياضيي النخبة الممول من طرف اللجنة الأولمبية الوطنية؛
غياب البعد الرياضي في برنامج الأحزاب الوطنية؛
ضعف البحث العلمي في المجالات المرتبطة بالرياضة و الهندسة الرياضية؛
غياب مؤسسات و هيئات تعنى بالتحليل و التقييم الرياضي العلمي.
إن الإقلاع الرياضي المنشود الذي يمكن أن يعيدنا إلى خريطة الدول المتوجة أولمبيا، لن يتأتى إلا بترييض السياسة، و ذلك بسن سياسات رياضية مندمجة توفر ظروف الممارسة الرياضية السليمة و التحصيل الدراسي الموازي منذ الصغر و التأطير التقني و التكــوين اللازم و التتبع و التقييم و البحث العلمي، و ذلك وفق مقاربة تعتمد الحكامة الجيدة و التخطيط المتعدد المدى الذي يراعي الزمن الأولمبي من أربع إلى ثمان سنوات.