بقلم الدكتور ظريف رشيد : العناصر المحركة لبنية تنظيم داعش
العناصر المحركة لبنية تنظيم داعش
بقلم الدكتور ظريف رشيد
إن البحث في العناصر المحركة لتنظيم "داعش"، يفرض علينا منهجيا تحديد عناصر بناءه الافتراضي، باعتباره بنية خاصة تقوم على أطراف معينة، يختص كل طرف منها بدور ووظيفة محددة. إذ بانتظام هذه العناصر/ الأطراف، يتمكن التنظيم من القيام الفعلي والاستمرار واقعيا وإيديولوجيا. ويمكن أن نحدد عناصر بنية التنظيم في: العنصر "المنظر" والعنصر "المؤمن" وأخيرا العنصر "القائد المؤسس". فإدراك بنية تنظيم "داعش" في تمايزاتها يمكننا من الاقتراب الفعلي من العناصر المحركة للتنظيم، مما قد يساعدنا على التعرف عن الأسباب الحقيقية وراء قيامه وانتشاره داخل مجتمعات معينة.
إذا رجعنا إلى آراء الباحثين في الموضوع، فإننا نجد أن منهم من ركز على "الطرف المنظر" كعنصر أساسي في فهم دوافع المنتمين وأهدافهم، ومنهم من ركز على فئة المؤمنين، بينما لم يتم الانتباه إلى الدور الأساسي لفئة القادة المؤسسين، التي نعتبرها العنصر المحرك لمكونات بنية هذا التنظيم، والفاعل الأساسي في إخراجه إلى الوجود، وذلك للأسباب التالية:
فمن جهة، لا يمكن الاعتماد على "المنظر" الداعي إلى تطبيق الشريعة، في تحديد الأهداف الحقيقية من وراء تنظيم داعش، بسبب ضعف الموقف الاجتماعي الذي يتميز به، وإيمانه العميق بعدم التطابق بين الفكرة والواقع. فالشيخ/الداعية ببساطة، لا يملك لا القدرة ولا الجرأة على التخطيط العملي لتحقيق الطوباوية التي يحث الناس على العمل من أجل بلوغها، إنه شخص يعرف جيدا أن ما يدعوا إليه لا يمكن تطبيقه كليا، وهذا ما يجعله يتأقلم مع العيش تحت وطأة المفارقات، فهو بالرغم من كل ما يدعوا إليه من قيم ومثل أخلاقية، إلا أنه يلجأ إلى تدبير أمور حياته عن طريق "الحيلة"، إنه يحتال باستمرار للتوفيق بين ما يدعوا إليه وما يعيشه، ولاعتياده على قضاء حوائجه بالحيلة، لم يعد يملك القدرة على المواجهة. لهذا، فمشاركته في التأسيس للتنظيم، تنحصر في عمله على الدعوة إلى تطبيق شرع الله وإقامة الدولة العادلة، والتعبئته المستمرة لجمهور المؤمنين، دون أن يكون قصده هو إخراج تنظيم متطرف للوجود، إنه يمارس دعوته الدينية لتكون له مكانة اجتماعية ويحصل مكاسب مادية ليس إلا، وإن ساعد على قيام تنظيم داعش، فبغير قصد منه.
ومن جهة ثانية، لا يمكن للفئة "المؤمنة" في نظرنا أن تحرك بنية تنظيم "داعش"، فبالرغم من أنها تمتلك القابلية لتبني فكر ديني متطرف، والإخلاص الشديد في الإيمان به، إما لقناعة دينية لا واعية أو لأسباب سيكولوجية، إلا أنها لا تملك الجرأة على التخطيط والقيادة، لذلك، فهي دائما في حالة انتظار وتأهب لتلقي التعليمات. تكون هذه الفئة في غالبها ذات مستوى تعليمي ضعيف وساذجة، وتتميز بالإخلاص في تنفيذ الأوامر، والإقدام دون مناقشة، شديدة التعصب لرأي من تتبع. ولهذا، فدورها في بنية التنظيم يتوقف على التنفيذ دون المبادرة.
بينما نؤكد من وجهة نظرنا على أهمية الفئة الثالثة في التنظيم الداعشي، وهم "القادة المؤسسون"، باعتبارها العنصر الأساسي والفاعل في قيام هذا التنظيم بخصائصه تلك، إذ تمتلك هذه الفئة إمكانات علمية ومعرفية وتقنية تجعلها قادرة على التخطيط والقيادة، تعلم أفرادها في مدارس عصرية، انفتحوا على رحابة المعرفة والعلم، لذلك هم متحررون من الخوف الذي يسكن رجل الدين التقليدي/الشيخ. وليسو بسذاجة المؤمنين المستعدين للتضحية من أجل الجنة. يمكن القول بأن هذه الفئة بالضبط هي ما يميز تنظيم داعش عن غيره من الجماعات الإسلامية المتطرفة، وقيادتها للتنظيم هي ما يجعله يختلف كثيرا في استراتيجيته القتالية عن باقي الجماعات الدينية المتطرفة.
ترى ما لذي يحرك هؤلاء الفتية ويجعلهم يخططون لخوض حرب متطرفة ومدمرة ضد مجتمعهم؟
نعتقد أن هناك عاملين اثنين هما ما يحرك تلك الفئة للعمل على تأسيس نظام متطرف كنظام داعش، إنهما: الاحتجاج والمغامرة، مغلفين بغلاف ديني، والغالب أن هذا الخلط في ذهن قادة داعش بين الرغبة في الاحتجاج والتلهف لعيش المغامرة وادعاء الإيمان، هو السبب في غرابة الظاهرة وتطرفها.
لماذا يحتج الداعشي؟ إن قيادات تنظيم داعش أغلبهم شباب متعلمون، احتكوا جيدا بالعلوم العصرية، واطلعوا على تاريخ الحضارات الإنسانية والعلوم الحية، ويعرفون جيدا استعمال وساءل التواصل الحديثة، وقد يكون الكثير منهم يقرؤون بلغات حية غير لغتهم الأم، يشهد لهذا، المستوى التعليمي الجيد الذي عرفته بلاد الشام وما بين النهرين على مستوى التعليم والثقافة، كما يشهد له الأبحاث التي تؤكد بأن قادة التنظيم يتوفرون على مستوى عال أو متوسط من التعليم.
مع كل هاته المكتسبات والمؤهلات، يجد الشاب نفسه يعيش في بلد متخلف سياسيا وفكريا. فعلى مستوى السياسة يمارس الحزب الواحد القمع على كل من يخالفه الرأي، ولا يعطي أي فرصة للمشاركة في الفعل السياسي، من هنا يأتي احتجاج الداعشي عنيفا في حق مجتمعه، إنه يعاقب المجتمع الذي قبل أن يعيش تحت رحمة الدكتاتورية دون أن يقاومها، يحتج عليه لأنه طلب منه أن يتعلم ويقرأ ويفتح ذهنه على التجارب الإنسانية والقيم الكونية، ولكنه لم يهيأ له ظروف العيش في مجتمع يتماشى مع القيم التي تعرف عليها عن طريق التعلم والقراءة، لقد طلب منه المستحيل، وحمله ما لا يطاق، وها قد جاءت الفرصة ليحتج عليه، ولكنه لا يملك تجربة وخبرة في الاحتجاج السلمي، نظرا للقمع الذي مورس عليه، فيلجأ إلى العنف كوسيلة للاحتجاج، ويشرع له بالدين.
وهو يحتج كذلك على رجل الدين، الذي ظل يدعوه بدون توقف طيلة قرون إلى دين تقليدي، أثقل فكره وكاهله بأفكار وعقائد تشكلت في زمن معين، فأصبحت تشله على مجاراة واقع الإنسانية المعاصر والاندماج فيه والتفاعل معه. إنه يحتج عليه ويضعه أمام الأمر الواقع، يقول له، هذه هي نتائج تطبيق الأفكار والمبادئ التي تنظر إليها في أوضح صورها، إنه يصور له مشهدا حقيقيا وواقعيا من مشاهد رواية ظل الشيخ يبجلها لقرون، ويدعو الناس للعمل على تطبيقها دون أن يبدل هو نفسه أدنى جهد في تحقيقها.
الداعشي شاب متعلم، أدرك بعقله آفاق الكون ورحابة العالم وغنى تجربة الشعوب عبر تاريخ النضال من أجل تحقيق حلمها، ولكنه بالمقابل عاش الجمود في الحياة سواء على مستوى الفعل السياسي أو الاعتقاد الديني، إنه يعيش حياة لا يملك التحكم في واقعها الاجتماعي من خلال المشاركة السياسية ولا يستطيع تبني أفكار مختلفة عن ما يتبناه مجتمعه، سواء منها السياسية أو الدينية، إنه يشعر بأن المجتمع والسلطة يعامله معاملة طفل قاصر ومحجور، فالدكتاتور يقوم بتسيير شؤون حياته السياسية والاجتماعية، والشيخ يفرض عليه الإيمان بعقيدة ثابتة بمباركة المجتمع. ولذلك، فهو رغم قدراته العقلية والعلمية وحتى الفكرية، مازال طفلا ساذجا في ما يخص التجربة الواقعية، هذا ما يجعله يندفع بقوة لخوض مغامرة مدمرة، إنها مغامر يفجر من خلالها مكبوتاته ويحتج من خلالها على مجتمعه، ويشرعها لنفسه من خلال ادعاءه على أنه يعمل على إقامة الدولة الإسلامية المثالية.
المغامرة والاحتجاج والشرعية الدينية خصائص تمكن تنظيم داعش من استقطاب الشباب من كل بقاع العالم. فهناك العديد من الشباب المكبوتين سياسيا واجتماعيا عبر العالم والناقمين عن الأوضاع، وهناك المهووسين بعيش المغامرات وإن كانت مدمرة، إضافة إلى المؤمنين المتشددين. وهذه هي مصادر الاستقطاب بالنسبة للتنظيم.
إن طابع الشيخوخة الذي يطبع السياسات العالمية والاستخفاف بالشباب يساعد أكثر على انتشار الطابع الداعشي للإحتجاج. فداعش تمنح الشباب القدرة على تفجير المكبوت عن طريق الاحتجاج بالمغامرة، إنها طريقة أخرى لتفجير طاقات الشباب المكبوتة، والدين هو مصدر إضفاء الشرعية على كل ذلك.
إن مسألة الرغبة في دخول "الجنة" قد تشكل عند فئة "المؤمنين" حافزا ودافعا للالتحاق بداعش، ولكنها ليست في الحقيقة المحفز الحقيقي بالنسبة لفئة القياديين والمؤسسين. فالأدبيات الدينية لا تجعل من القتل والحرب السبيل الوحيد للفوز بالجنة والنجاة من النار، فما بالك بقتل الأقارب من ذوي الرحم والدين والوطن. ولكن داعش ركزت على هذه الطريق بالذات، لأنها ترغب في الاحتجاج على المجتمع وعيش مغامرة تخرجها من رتابة الحياة مهما تكن عواقبها. وتكمن أهمية تغليف المغامر بغلاف ديني بالنسبة لداعش في كونها الوسيلة الوحيدة والقادرة على استقطاب مقاتلين أشداء، يضحون بحياتهم في سبيل إقامة دولة متحررة من سلطة البشر، وتخضع لقانون إلهي عادل.
الدكتور رشيد ظريف باحث في مجال الخطاب الديني والسياسي