بقلم رشيد ظريف : انتحار الخطاب الديني التقليدي (خطبة الصبر نموذجا)
انتحار الخطاب الديني التقليدي (خطبة الصبر نموذجا)
برشيد نيوز: بقلم رشيد ظريف
إن ما يجعل خطابا معينا يحوز ثقة الجمهور ويحيا بحياتهم، سواء كان علميا أو دينيا أو فنيا، هو مقدار ما يقدمه للمستمع من تناسق وصدق على مستوى التطابق بين مقولاته التي يروج لها، وبين المنفعة التي يحصلها الجمهور جراء تطبيق تلك المقولات على واقعهم المعيش. والمقصود بالتطابق هنا، الإمكانات والحلول العملية التي يقدمها هذا الخطاب لحل مشاكلهم النفسية والمادية والاجتماعية، كما هو الأمر بالنسبة للخطاب الديني والسياسي أو العلمي، أو تقديم إضافات وفتح آفاق لعيش الحياة بطريقة أكثر راحة ومتعة، كما هو الأمر بالنسبة للخطابات الفنية والعلمية في أغلب صورها. فالإنسان يقيم الخطابات ويفاضل بينها بطرقة براغماتية، فأي خطاب قدم نفعا أكثر، كان الأجدر بنوال الثقة، ومن تم الاتباع وعقد الأمل عليه.
بالرغم من أن المستوى الثقافي والمحيط الاجتماعي والموروث الذهني، عوامل تؤثر بشكل كبير في إمكان إدراك وتحديد مقدار النفع الذي قد يقدمه خطاب معين للمستمع، إلا أن الأمر يصبح قريبا من التساوي بين جميع الناس عندما يتعلق الأمر بالحاجيات الأساسية للحياة اليومية.
بالطبع فعندما يسيطر خطاب معين على الفضاء العام، سواء كان الخطاب سياسيا أو دينيا أو علميا، فإنه يقوم بتسخير كل الإمكانات المتاحة المادية أو المعرفية والرمزية ليحتفظ لنفسه بالغلبة والسيطرة على عقول وأفئدة الجمهور، غير أنه قد يحصل لمنتج خطاب معين من الثقة الزائدة في قدرة الخطاب على السيطرة على الجمهور ما يجعله يتجاهل أو لا يبالي بقدرة العموم على إدراك مدى الضرر والحيف الذي يمارسه هذا الخطاب على المستمع، عندما يتحيز لطرف على حساب آخر ويكون النزاع حول أساسيات الحياة.
هذا ما وقع للأشخاص الذين قاموا بتحرير خطبة الجمعة في موضوع الصبر على البلايا وتحريم قتل الإنسان نفسه. لقد تحيز محرروا تلك الخطبة لطرف على حساب آخر بطريقة واضحة، حيث أن الخطاب ركز على مسألتين أساسيتين هما: الصبر على البلايا وتحريم الانتحار، بالمقابل، عمد إلى تجاهل كل الأسباب التي قد تؤدي إلى تفشي ظاهرة الانتحار سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، خصوصا وأن الحادثة موضوع الكلام تتعلق بامرأة تناضل من أجل قوت يومها في مواجهة ممثل السلطة المتعسف. يظهر جليا أن الثقة في تمكن الخطاب الديني التقليدي من نفوس العموم هي التي جعلت محرر الخطبة يتطرف في لوم المنتحر دونما اي اشارة للدوافع الاجتماعية والسياسية، ودون أن يحترم تعاطف الجمهور مع تلك المواطنة المقهورة، لقد أشار إلى كفرها وكأنها شخص استعمل كل المتع الممكنة في الحياة ليصاب بالملل من رتابة اليومي.
لقد أثبت التاريخ أن سلطة أي خطاب لا تستطيع مقاومة كفر الجوع، فمهما حاول رجل الدين إلهاء الجائعين عن جوعهم بتوجيه فكرهم إلى الاهتمام بما بعد الموت، فإن لسعات الجوع تطلب من الشخص بقوة أن يركز انتباهه على تجاوز ما يهدده في حياته بأي طريقة، وهذا ما قد يجعله يشعر بالعداوة تجاه كل من يلهيه عن مقاومة الجوع أو يتواطأ عليه.
نذكر هنا التطرف في التحيز الذي مارسه رجل الدين المسيحي لصالح الحاكم على حساب المستضعفين، لقد وصل الأمر بعد طول صراع إلى أن فقدت الكنيسة الثقة التي كانت تتمتع بها بين عموم الجمهور، ليتحول الدين إلى عنصر غير مرغوب فيه لا سياسيا ولا اجتماعيا، إن تواطؤ رجل الدين قد جعل الأغلبية تفقد الثقة في الخطاب الديني بفعل ثقل المسؤولية التي حملها للمستضعفين لصالح الأقوياء، وهذا ما جعل الأغلبية تشعر حياله بحساسية بالغة كلما تعلق الأمر بمناقشة الأمور السياسية ومساءل تسيير الشأن العام.
إن إسناد أمر تسيير الشأن الديني بالمغرب لأفراد عديمي المعرفة بالعلوم التاريخية والاجتماعية، وبالدين نفسه، وبأحوال الإنسان المعاصر، يشكل خطرا على الدين وعلى الوطن. إنهم أناس تقليديون لا يتوفرون لا على وعي تاريخي ولا اجتماعي، يشعرون بالضعف الشديد، ولذلك يتطرفون في التحيز للسلطة لأنهم يعتبرونها حاميهم وناصرهم، فنهم لا يمتلكون مؤهلات تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم ليكون لهم رأي مستقل ومعتدل في تناول أمور الشأن العام.
إذا كان الخطاب الديني يلعب دورا أساسيا في ضمان استقرار الوطن وتجنب ويلات الفرقة والاقتتال في المغرب، فإنه من الضروري أن يتم الحرص على أن يبقى هذا الخطاب يتمتع بالثقة اللازمة في قلوب المواطنين حتى يستمر في لعب الدور المناط به. ولهذا وجب أن تناط مسؤولية تسيير الشأن الديني لأشخاص يفهمون معنى "الوطنية" بشكل صحيح، ويمتلكون قدرا مهما من الوعي بالتاريخ الإنساني والعلوم الاجتماعية والإنسانية. فالخطبة التي تذكر المواطنين المستضعفين بحرمة الانتحار، كان عليها أن تنبه المسئولين وتحثهم على الانتباه إلى الأمور التي تدفع المواطن لارتكاب مثل هذه الأفعال، حتى تحافظ على الاعتدال المطلوب في تناول الأمور، وتساهم في تخفيف الضغط الذي قد تخلفه حوادث الانتحارات التي أصبحت تمثل طريقة أخرى من طرق الاحتجاج.
إن التطرف والشطط في استغلال الدين سيجعل الأفراد يفقدون الثقة في الخطاب الديني بالتدرج، وعندما يفقدون الثقة الازمة فبالضرورة سيبحثون عن البديل، ولن يكون هذا البديل غير الخطاب الديني المتطرف، لأنهم أصلا لا يتوفرون على الإيمان بقدرة العلم والعقل على حل مشاكل الاجتماع والسياسة والحياة عموما. فعندما فقدت الكنيسة السيطرة على الجمهور في أوروبا المسيحية كان البديل المتمثل في الإيمان "بالفكر العلمي" قد تمكن من نفوس الأغلبية، لقد اكتسب الفرد الأوروبي ثقة كبيرة في العلم باعتباره فكرا وبإمكانه تقديم حلول للمشاكل الاجتماعية والسياسية وحتى الفردية، أما في المجتمعات العربية المسلمة التي مازال أفرادها لا يمتلكون ثقة في "الفكر العلمي" فلن يكون البديل عن الخطاب الديني التقليدي المتطرف في التحيز للسلطة إلا خطابا دينيا متطرفا في معاداة السلطة، إنه الفكر الداعشي المتطرف في صور مختلفة.
الدكتور رشيد ظريف باحث في مجال الخطاب الديني والسياسي