بقلم رشيد ظريف : الإطار الإيديولوجي لتنظيم "داعش"
الإطار الإيديولوجي لتنظيم "داعش"
برشيد نيوز: بقلم رشيد ظريف
تتعدد أشكال الأجوبة عن أسباب ظهور تنظيم داعش بتعدد توجهات الباحثين في الموضوع، فهناك من يربط ظهورها بمؤامرة خارجية تستهدف الإسلام والعرب منهم بالخصوص، وهناك من يرى فيها المآل المنطقي والنتيجة الحتمية لسيطرة الخطاب الديني التقليدي، ويذهب آخرون إلى اعتبارها تفاعل لاواعي، وتعبير متطرف عن رفض السياسات الدولية الاحتكارية والإقصائية.
كل هذه الأجوبة تأخذ حظا من الصحة بشكل من الأشكال، إذ قد تقوم تلك العوامل بدور "المساعد" على ظهور التنظيم المتطرف بطريقة أو بأخرى، ولكنها لا تمثل في نظرنا الأسباب الأولية وراء تشكل "الفكرة المحركة" أو الإطار الإيديولوجي لقيام تنظيم "داعش".
يتميز العراق والشام (باعتبارهما مناطق حاضنة للتنظيم) بخصائص قد توجد في باقي بلدان العالم العربي الإسلامي متفرقة، غير أن ما يهمنا هنا هو اجتماع هذه العوامل في زمان ومكان معينين، وتفاعلها مما أدى إلى تشكل النواة الأولى لفكرة تحقيق قيام تنظيم "داعش".
هناك عوامل ثلاث، نعتقد أن التفاعل بينها قد أدى إلى تشكل الإطار النظري لهذا التنظيم المتطرف. أولها انتشار المعرفة العلمية بشكل ملحوظ، ثم إحياء الخطاب الديني التقليدي وانتشاره في صفوف المتعلمين، وأخيرا نظام الحكم الدكتاتوري القمعي.
كيف يؤدي اجتماع هذه العوامل إلى تشكل فكرة تحقيق دولة الخلافة بالمعنى الداعشي؟
تميز الحكم في سوريا والعراق بتوجه قومي ثوري كان الهدف منه في البداية، النهوض بالأمة العربية وجعلها تلحق بمصاف الدول القوية، وقد عمل قادة هذه الدول على تحقيق هذا المبتغى من خلال إجراءات عدة، كان أهمها التوجه الداعم للتعليم ونشر الثقافة والتشجيع على المعرفة والترجمة. أدى هذا الإجراء إلى احتكاك الأفراد والجماعات في هذه المجتمعات بالمعرفة والعلوم على مختلف أشكالها، مما حقق لهم مكسبا لا بأس به في مقابل باقي المجتمعات العربية المسلمة.
رافق انتشار المعرفة العلمية صحوة على مستوى الخطاب الديني، غير أنه لم يتم العمل على تجديد هذا الخطاب، تجديدا يمكنه من التوافق مع عقلية العلم المعاصر. إذ بقي يرزح تحث وطأت التقليد والجمود وعدم القدرة على مسايرة تطور الفكر العلمي الحديث والمعاصر.
بالرغم من التزاوج الذي حصل في ذهنية الأفراد المتعلمين بين الخطاب الديني والمعرفة العلمية، إلا أنهم لم يستطيعوا الوثوق في إمكانات العلم في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالكشف عن اسرار الحياة والكون، إذ لم يستطيعوا التخلص من العقائد التي يفرضها الخطاب الديني التقليدي، والتي تناقض في أغلبها أساسيات الفكر العلمي. وهكذا فقد بقي الإطار النظري للفكر الديني التقليدي هو "البراديم" الموجه للتفكير والفعل، أما العلم، فقد حضر باعتباره آلة ووسيلة فقط، وغاب باعتباره "برادايم" موجها للتفكير والفعل.
وعليه، أصبحت المعارف العلمية مجرد وساءل لتفعيل مقتضيات خطاب ديني تقليدي، يؤسس نظريا لتجاوز الواقع والحلم بقيام دولة الخلافة العادلة (الطوباوية حسب تعبير عبد الله العروي). وبما أن الخطاب الديني التقليدي قد تساكن وتفاعل في ذهن العربي المسلم المتعلم بمناهج علمية حديثة، وبما أنه أصبح مهووسا بالرغبة في عيش "السعادة" في ظل دولة تطبق شرع الله، فقد كان من الطبيعي أن يذهب إلى تصور منتهى التسلسل المنطقي لمقتضيات هذا الخطاب، محاولا الكشف عن المآلات التي يمكن أن يؤدي إليها واقعيا، متأثرا بذلك بتعالق النظرية بالواقع في العلوم الحقة وتنظيرات فلسفة العلوم التي اشرأبها من خلال تعلمه للعلوم المطبقة دون أن يدرك ذلك. (هذا ما يفسر انتشار التشدد الديني بين أوساط الطبقات المتعلمة وبالخصوص المهندسين والأطباء، وعموم المحتكين بالعلوم التي تجعل من إمكان التحقق في الواقع قيمة أساسية في كمعرفة صحة النظرية كما هو الحال في علوم الرياضيات والفيزياء والطب...)
إن التشجيع على التعلم وانتشار المعرفة مع سيطرة خطاب ديني تقليدي ينظر للطوباوية المطلقة في ظل نظام حكم دكتاتوري قمعي، قد أدى إلى تشكل شخصية مريضة ومتشنجة فكريا ومهووسة بتحقيق الحلم، الذي أصبحت تنظر إليه وتعتبره بمثابة الخلاص الوحيد من الوضع المتناقض الذي تعيشه. ولذلك، فهي لا تقبل أي اعتراض على حقها في تحقيق حلمها المشروع، وتصبح عدوانية في وجه من يحاول أن يشعرها بلاعقلانية تحقيق هذا المبتغى، أو عدم إمكان تنزيله في الواقع. فتحقيق المشروع النظري على أرض الواقع وإمكان تطبيقه قد أصبح معيارا لصحة العقيدة الدينية، كما أن إمكان التطبيق في العلوم الحقة يمثل مقياسا لصحة النظرية العلمية.
الدكتور رشيد ظريف باحث في مجال الخطاب الديني والسياسي